تعيد المطالبات الراهنة بالوحدة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، التذكير بمطالبات سابقة بالوحدة العربية وإنهاء التجزئة، في التجربة العربية اختلف اتجاهان قوميان عربيان حول الأولويات، هناك اتجاه صاغ أهدافه بـ(حرية، اشتراكية، وحدة) والاتجاه الآخر صاغها بالعكس (وحدة، حرية، اشتراكية). وكان المشترك بين تقديم الوحدة وتأخيرها هو الإخفاق الذي ظل ملازما للقوى التي دعت لها حتى الآن، وقد تكرست القطرية نقيضا للوحدة بالرغم من المشاعر الشعبية التواقة للوحدة. الوحدة لها مفاهيم طوباوية، فعندما يتم الحديث عن إجماع فإنه يتعارض في الواقع مع التعدد وتحصيل حاصل يتناقض مع الديمقراطية. قد يتوفر إجماع على أهداف وطنية كالتحرر من الاستعمار والاستقلال، ويعبر عنه في إطار جبهة وطنية متحدة، لكن الأهداف تخضع في الغالب لقراءة وتفسير الطرف الأقوى في الجبهة المتحدة. وقد يتوفر إجماع على الديمقراطية لكن تطبيقات الديمقراطية شيء مختلف قد تكون نقيضا للديمقراطية.
خطاب الوحدة الداخلي وإنهاء الانقسام الفلسطيني، خطاب شعاراتي بامتياز - مع استثناءات قليلة -. وبخاصة الشعار الذي يدعو إلى إنهاء الانقسام وإعادة انتخاب المجلس الوطني، وبناء منظمة التحرير فورا، وذلك الخطاب الذي يتحفظ على المؤسسات القائمة وبعض أصحابه يعتبرها غير شرعية ويطالب بتغييرها فورا أو تعطيلها إلى أن يتم التغيير. هؤلاء يقفزون عن واقع الشرعية الفلسطينية المعبر عنه في المؤسسات القائمة «مجلس وطني، مجلس مركزي، لجنة تنفيذية»، تلك المؤسسات التي تشكلت في مدى زمني طويل وفي سياق صعود وتطور الحركة الوطنية، ولكن بمضي الوقت اعتورها أمراض البيروقراطية والتكلس والفساد والفئوية، بفعل نظام الكوتا الذي كرس الهيمنة والتفرد والمحاصصة على أساس الولاء، وغَيّب الإصلاح على مدى عقود. نعم، غاب الإصلاح والتجديد في إطار التنظيمات التي تتشكل منها مؤسسات المنظمة، وغاب الإصلاح في إطار المؤسسات المشتركة «مجلس وطني، ومركزي، وتنفيذية، وصندوق قومي»، غاب الإصلاح طوال الوقت، والسبب الحقيقي لغيابه عدم توفر قوى سياسية تتمتع بمواصفات ديمقراطية وتمتلك تدريجيا مقومات الإصلاح. كانت هذه المؤسسات بمواصفاتها غير الديمقراطية معترفا بها عربيا ودوليا وإقليميا تحت عنوان منظمة التحرير التي هي عنوان الشرعية الفلسطينية. كما هو حال مؤسسات الأنظمة غير الديمقراطية العربية وغير العربية من برلمانات وحكومات وزعامات ملكية وجمهورية. واقع الحال، صبر المتحمسون للإصلاح راهنا وقتا مفتوحا وفائضا، إلى أن تكرس نظام فلسطيني لا يختلف عن الأنظمة العربية والإسلامية غير الديمقراطية، وتفوق النظام الفلسطيني عليها بافتقاده للمقومات واهمها السيادة.
من المنطقي القول، إن فشل حركة فتح المسيطرة على المنظمة، في إنهاء الاحتلال وتحويل السلطة إلى دولة عبر التفاوض خلخل ثقة القوى السياسية وبخاصة المعارضة والاهم خلخل ثقة الناس بمشروع الدولة. ليس هذا وحسب بل استغلت الدولة المستعمرة الفترة الانتقالية المفتوحة في تعميق الاحتلال ومضاعفة الاستيطان وفي تقويض مقومات الحل السياسي الذي له علاقة بالدولة، وفي إغلاق كل الأبواب أمام أي عملية سياسية جديدة. وفي انتهاك الكرامة الوطنية والإنسانية بأبشع أشكال القمع، كالاقتحامات والاعتقالات واعتداءات المستوطنين اليومية، هذه السياسة الاستعمارية العنصرية ولَّدت قناعة لدى الأكثرية الفلسطينية بعدم جدوى العملية السياسية، وأطفأت أي أمل وأي بصيص أمل أو وهم بالخلاص من الاحتلال وسيطرته الاستعمارية المذلة. وبهذا، نجحت الدولة المستعمرة المحتلة في تحويل الاستقطاب الشعبي الفلسطيني من مُعَوِل على عملية سياسية لها أهداف قابلة للتحقيق كما كان يعتقد. إلى دعم كتائب المقاومة المسلحة حتى وإن كانت في معظم الوقت في حالة هدنة، وحتى لو كانت أهدافها غير قابلة للتحقيق. هكذا، يُحبط مشروع الحل السياسي ويتحول إلى لغز، محدثا تحولا في المزاج والمواقف الشعبية، عنوانه الانفضاض عن أصحاب وصانعي الخيار السياسي الفلسطيني الفاشل.
عندما يترافق الفشل السياسي الرسمي، باستمرار الاستحواذ على القرار السياسي وباستمرار التفرد في اتخاذ القرارات والجمع بين السلطات الثلاث، وقمع أو معاقبة المعارضين، فإن تضافر العاملين المذكورين شجع ويشجع على المطالبة بالتغيير الفوري دون مقومات ذاتية وموضوعية، وبالدعوة إلى مقاطعة المجلس المركزي واعتبار أي جلسة من جلسات مؤسسات المنظمة بتركيبتها الحالية غير شرعية. وهنا دعونا التوقف عند الشرعية واللاشرعية، إذ يحلو للبعض القول بخفة، إن المجلس المركزي غير شرعي، وكذلك المجلس الوطني، وإذا ما أخذ هذا الكلام على محمل الجد واستجابت أكثرية الفصائل والتنظيمات والشخصيات المستقلة وشبه المستقلة للمقاطعة. فإن من شأن ذلك المساهمة في تبديد الشرعية فلسطينيا وعربيا ودوليا، تلك الشرعية التي نشأت في سياقات معقدة وطويلة الأمد. وإذا ما تعطلت الشرعية حينئذ يصعب العودة إلى بدايات التأسيس الصفرية في غياب حركة وطنية صاعدة ومستقلة. إن الإمعان في ذلك يحدث تقاطعا موضوعيا مع هدف تفكيك مقومات الكيان الفلسطيني، الكيان الذي لا يريد المستعمرون أن تقوم له قائمة.
الأمر المثير للجدل أن بعض دعاة المقاطعة لا يتوقفون عند أي تغيير يريدون، يريدون تغييرا حتى وإن كان نحو الأسوأ، حتى لو كان مقامرة تساهم في مواصلة التفكك والتفكيك دون توقف. التغيير مستحق دون شك، فلم يعد بقاء الأمور الداخلية على حالها محتملا، بل إن البقاء دون تغيير يساهم في إضعاف العامل الفلسطيني ويتقاطع أيضا مع عملية التفكك والتفكيك. ولكن أي تغيير نريد؟ هل نريد استبدال سلطة غير ديمقراطية بسلطة غير ديمقراطية معززة بأيديولوجيا تضعها فوق النقد والمساءلة. هل نريد عودة القضية الفلسطينية إلى مستوى ورقة سياسية وأمنية تستخدمها بعض المحاور الإقليمية في الضغط لتحسين شروطها ومواقعها الإقليمية. لا مناص من التغيير، من داخل المؤسسة، من داخل المجلس المركزي، وعبر الانتخاب، الانتخاب ليس بالذهاب إلى صناديق الاقتراع فقط، ولكن بتمثل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وأخلاقيات النضال، والقيم النبيلة في المجتمع، وقيم الاستقلال. يتعدل ميزان القوى بتطوير الموارد من داخل المجتمع، وليس بحوار الطرشان بمسميات الحوار الوطني، ويتعدل ميزان القوى باتحادات شعبية ومهنية مستقلة معبرة عن أجسامها، وبنقابات واتحاد نقابات ملتصق بالجسم العمالي الذي يمثله، نعم بالقدر الذي يُبنى فيه ميزان قوى لمصلحة الديمقراطية بالقدر الذي يحدث فيه التغيير، التغيير ميزان قوى بين مدافعين عن الديمقراطية ومناهضين للديمقراطية، بين مناهضين للفساد ومدافعين عنه.
مفهوم الوطن والشعب لدى مشعل: «الخسائر التكتيكية»
09 أكتوبر 2024