على مدى خمسة أيام متواصلة، تابع الملايين حول العالم عمليات إنقاذ الطفل المغربي ريان، الذي علق في بئر عميقة، في مشهد مهيب لواحدة من لحظات تجلي الإنسانية، حيث توحّد سكان الأرض جميعاً بقلوب راجفة وأعصاب مشدودة، وهم يتضرعون لله أن يخرج سالماً.
النهاية كانت حزينة، لكنها مناسبة لطرح موضوع «الإنسانية» على ضوء الحدث الجلل، ولفهم كيف صارت قرية نائية في أقصى المغرب بؤرة الاهتمام العالمي.
أمضى الطفل ريان خمسة أيام بلياليها وحيداً، في البرد والعتمة، يعاني الجوع والعطش والخوف، نادى بصوت متوسل مخنوق، حتى كفَّ عن البكاء بعد أن وهن جسده، ثم رحل، تاركاً أهله والملايين من خلفه في حزنهم وفجيعتهم.. رحل إلى السماوات العلا، لكن صرخته ستظل باقية، لعلها توقظ ضمائرنا، فننتبه إلى ملايين الأطفال الآخرين، الغارقين في حُفرٍ وآبار لا تقل عتمة وبرداً.
وبصرف النظر عن ملابسات عملية الإنقاذ المعقدة والطويلة، وعشرات الأسئلة التي يمكن طرحها، ما يعنينا هنا ظاهرة التعاطف والتضامن العالمي مع محنة ريان وأهله.. والتي أظهرت الجانب النبيل في بني البشر، وأخرجت فيهم مشاعر الرحمة والإنسانية.. فقد جعلت مأساة ريان العالم بأسره يقف على رؤوس أصابعه حابسا أنفاسه، لكنها في الوقت ذاته عززت من قيمة الإنسانية.. فقد كان تعاطف الملايين معه تعاطفاً مع الطفولة المعذبة، وتضامنا مع كل الضعفاء والمظلومين أينما كانوا.
صحيح أنَّ محنة ريان وحّدت الشعوب العربية، وجعلتهم يتناسون خلافاتهم السياسية، لكن فهمها عند هذا الحد يعد فهما قاصرا، ولا يعدو كونه تنظيرا أيديولوجيا؛ فالشعوب العربية في الأساس ليست مختلفة سياسيا (باستثناء بعض المتعصبين الذين تشربوا الثقافة القُطرية)، وأي مواطن عربي سيتفاعل فطريا وتلقائيا مع أي حالة عربية، لكن المسألة كانت أكبر من ذلك، وأشمل، فقد تعاطفت شعوب العالم بأسره مع ريان، كما سبق أن تفاعلت مع قضايا إنسانية أخرى جرت قبل ذلك، وبذلك برهنت فاجعة ريان أن «الإنسانية» تسمو على كل الاعتبارات الأخرى، القومية والدينية والعرقية.
الإنسانية، أن تشعر مع المظلومين والضحايا بصرف النظر عن دينهم أو لونهم، أو عرقهم.. أن تنحاز للإنسان لمجرد أنه إنسان.. وهذا يكفي لأن تتشارك معه أحزانه وأوجاعه، وأن تلتقي معه بمحبة، ودون كراهية، ولا أحكام مسبقة.
الإنسانية أن ترفض الظلم لأنه ظلم، ومهما كان مصدره، وتدين الظالم لأنه ظالم وحسب، حتى لو كان زعيم طائفتك، أو قائد حزبك.. الإنسانية هي العدل والمساواة، وهي النقيض لكل الأيديولوجيات والأفكار المتعصبة التي تصنف الناس على مسطرتها الخاصة..
الإنسانية أن تتمنى الخير لجميع الناس، وللكوكب.. وحين تفيض بالإنسانية، سيمتلئ قلبك حبا، وستتخلص من كل مشاعر الكراهية.
وإذا عمّت الإنسانية كوكب الأرض، سيكون بوسعنا التفرغ والتعاون لمجابهة أخطار البيئة وكوارث الطبيعة التي تتربص بنا جميعا، وتهدد وجودنا من أساسه.. وسنتفادى خطر الحروب والصراعات، لنبني صرح السلام العالمي.. وهذا قدرنا كبشر، وإلا صنعنا نهايتنا المفجعة بأيدينا.
الإنسانية بحد ذاتها ليست ديناً، فهي تخلو من الطقوس والشعائر.. ولا تتضمن عقيدة معينة.. لكنها لا تعارض أي عقيدة، ولا تزدري أي طقس ديني، بل تحترم كل الأديان، وتحب جميع المؤمنين.. ولا تدعي أن نبيا قد أُرسل إليها تحديدا، ولا تزعم احتكار علاقتها بالسماء، ولا حصرية تمثيلها لله سبحانه.. وهي ليست بديلا عن أي دين، فمن الممكن أن تكون إنسانيا، وفي الوقت نفسه تكون مسلما متدينا، أو مسيحيا، أو بوذيا أو علمانيا، أو ملحدا.
«الإنسانية» سبقت القوميات والأديان والأعراق كلها؛ فهي تاريخياً وُجدت مع ظهور الحضارة الإنسانية؛ أي منذ أن ارتقى الآدمي فتحول من كونه كائنا بشريا إلى إنسان.. وتبلورت مع صياغه أول عقد اجتماعي للمجموعات السكانية في عهد الإنسان الأول.
الإنسانية ليست أيديولوجيا، ولا نظرية فكرية، ولا حتى فلسفة.. هي نزعة فطرية نقية، تتمثل في سلوك الإنسان السوي والأخلاقي، وفي مشاعره النبيلة.
لم يبتدعها شعب معين، ولم يخترعها نبي مرسل، ولا فيلسوف حكيم، ولا يمكن لأي حضارة أن تدعي صناعتها أو تمثيلها الحصري.. هي نتاج التجربة الإنسانية جمعاء، منذ أن خرج الإنسان القديم من الكهوف، واكتشف الزراعة، إلى أن صنع الإنسان المعاصر مركبة فضائية تنقله إلى المريخ.. اشتركت في صياغة وصنع هذه التجربة كل الحضارات الإنسانية، منذ السومريين حتى وقتنا الراهن.
تثبت الإنسانية أن تاريخنا ليس فقط تاريخ الغزوات والحروب والاضطهاد.. فمقابل تيار الحروب والتدمير والظلم كان هناك على الدوام مسار إنساني آخر، يلتقي فيه البشر مع بعضهم بعضا في أشكال عديدة من التعاون والإخاء، كالتجارة، وتبادل الثقافات والخبرات، والتزاوج، وحسن الجوار، والتعاضد، والإغاثة، وتطوير العلوم، والمسابقات الرياضية.. يلتقون سلميا.. وبنوايا طيبة.
وفي سياق هذه الرحلة الإنسانية أتت الأديان السماوية (ومن قبلها الأرضية)، أتت لتسرّع من إنضاج التجربة الإنسانية، ولتكملها، وتهذبها، ولتعلي من شأن الأخلاق والقيم.. ولكن أتباع تلك الديانات نزعوا عنها فيما بعد سماتها الروحانية المحلّقة، وسلبوها طاقاتها الإيجابية، وفرغوها من مضامينها الإنسانية السامية، فحولوا الدين إلى سلطة، مهمتها التحكم في المجتمع، وهندسته وفقاً لأيديولوجيتها، حوّلوا جموع المؤمنين إلى جماعة سياسية متسقة تصطف خلف زعيم ديني.. وهذه الجماعة مهمتها نشر مذهبها بالقوة وفرضه على بقية الشعوب.. وهكذا خبا جمال الدين وتشوه خلف الكراهية التي خلّفتها موجات من الحروب الدينية.
الحضارة الغربية بوصفها الحالي لا تمثل الإنسانية الحقة، لكنها حلقة مهمة في الوصول إلى الحضارة الإنسانية الشاملة، التي قد ترتقي إلى مستوى تمثيل الإنسانية التي نطمح إليها. ولكنها على الأقل جعلت تلك الممارسات الفظيعة والشنيعة التي كانت سائدة في أزمنة سابقة غير مقبولة، بل مستهجنة.
الإنسانية حاليا، مجرد نداءات صادقة ونقية، أو هي تيار عالمي تنخرط فيه يوما بعد يوم فئات اجتماعية جديدة وباطّراد، من كل الشعوب والأمم.. وهذا التيار اكتسب سرعة وزخما كبيرين في عصر العولمة والثورة المعلوماتية والتكنولوجية وثورة الاتصالات.. ما يقربنا خطوات إضافية للوصول إلى الإنسانية الحقة والشاملة.. ولكن ما زال أمامنا الكثير، وما زال الدرب طويلا وصعبا..