صراع «الإرباك المتبادل» في العراق

ادريس.PNG
حجم الخط

بقلم محمد السعيد إدريس 

 

بفشل البرلمان العراقي في إنجاح جلسة انتخاب رئيس الجمهورية التي كان مقرراً لها، يوم الاثنين الفائت، يكون العراق أدخل نفسه في أزمة «فراغ دستوري»، لأن فشل انتخاب رئيس الجمهورية يعني مباشرة تجميد عملية انتخاب رئيس الحكومة الجديد، وأربك جدول مواعيد انتخاب رؤوس النظام، لأنه، وحسب الجدول المعد مسبقاً انتخب رئيس البرلمان يوم 9/1/2022 وتحددت جلسة انتخاب رئيس الجمهورية بيوم 7/2/2022 على أن يكلف الرئيس الجديد، وخلال مهلة 15 يوماً من تاريخ انتخابه، مرشح «الكتلة الأكبر» لتشكيل الحكومة. 

 الآن لم ينتخب رئيس الجمهورية، ولا يعرف أحد متى سينتخب، ومن ثم أضحى أمر اختيار رئيس الحكومة معلقاً على حسابات شديدة التعقيد دخلت فيها المحكمة الاتحادية العليا طرفاً أساسياً، لأسباب لا دخل للمحكمة فيها، ولكن نتيجة مباشرة لصراعات الطرفين الكبيرين المتصارعين، وفقاً لأحدث خرائط الاستقطابات السياسية، وهما: التحالف الثلاثي الذي يضم (التيار الصدري «الشيعي» وتحالف السيادة «السني» والحزب الديمقراطي الكردستاني، والتحالف المقابل الذي يضم قوى الإطار التنسيقي، والاتحاد الوطني الكردستاني، إضافة إلى أعداد من النواب المستقلين).

 ما يحدث الآن يمكن تسميته ب«صراعات الإرباك» التي بدأها الإطار التنسيقي بعد فشل وساطات التفاهم مع مقتدى الصدر لتشكيل حكومة ائتلافية موسعة على شاكلة الحكومات السابقة تضم ممثلين لكل القوى السياسية، بمختلف انتماءاتها الطائفية والعرقية، الأمر الذي رفضه مقتدى الصدر بإصراره ليس على رفض مقترح الحكومة الائتلافية فقط، أي «حكومة التفاهمات» باعتبارها، من وجهة نظره «بيت الفساد» و«بيت الداء في النظام السياسي العراقي»، إنما لتمسكه أيضاً بتشكيل «حكومة الأغلبية». 

 في ظل هذا التعقيد، وإدراك «الإطار التنسيقي»، بأحزابه المختلفة، أن الصدر يملك الأغلبية التصويتية، وأنه استطاع أن يتحالف مع الجناحين القويين في المعادلة السياسية من الكرد (الحزب الديمقراطي الكردستاني)، ومن السنة «تحالف السيادة» الجديد الذي يضم جناحي محمد الحلبوسى وخميس الخنجر، فقد قرر هذا الإطار التنسيقي إرباك مسار العملية السياسية الجديدة، وإفشال تأسيس سلطة جديدة يقودها مقتدى الصدر، وتكون نتيجتها عزل كل القوى الشيعية الأخرى ودفعها، حشراً، نحو ركن المعارضة، للمرة الأولى منذ أول تجربة انتخابية عام 2005 بعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين عام 2003.

 بدأ الإرباك الأول برفض الإطار التنسيقي انتخاب محمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان للمرة الثانية، واللجوء إلى المحكمة الاتحادية العليا طلباً لوقف هذا الانتخاب الذي جرى يوم 9/1/2022، حيث تقدم النائبان باسم خشان، ومحمود داوود، عبر محاميهما، بطلب إلى المحكمة يستند إلى أن جلسة مجلس النواب التي انتخبت الحلبوسي، شابتها مخالفات قانونية ودستورية، وترتب على هذا الطلب صدور قرار من المحكمة الاتحادية العليا (13/1/2022) يقضي بإيقاف عمل هيئة رئاسة مجلس النواب الجديدة (الرئيس ونائبيه). وبعد إقرار المحكمة صحة انتخاب الحلبوسي جاء التحرك الثاني من قوى «الإطار التنسيقي» من خلال تجميع عدد كاف من أعضاء مجلس النواب يكون في مقدوره منع انتخاب رئيس الجمهورية مرشح مسعود بالرزاني والمدعوم من مقتدى الصدر، عبر آلية «تعطيل التصويت» من خلال ما أسموه ب«الثلث المعطل»، أي امتلاك العدد الكافي من النواب الذي في مقدوره تعطيل انتخاب الرئيس الجديد، حيث يتطلب انتخاب الرئيس أن يتحقق النصاب القانوني لجلسة الانتخاب وهو ثلثي أعضاء البرلمان، أي 220 نائباً من إجمالي 329 نائباً، هم كل أعضاء البرلمان. وكان الهدف من هذا التكتيك إرغام الصدر على التفاهم مجدداً مع قوى «الإطار التنسيقي» حول شكل الحكومة الجديدة.

  وربما تشكّك «الإطار التنسيقي» في فعالية هذا التكتيك فتم اللجوء إلى آلية إرباك ثالثة هي اللجوء إلى المحكمة الاتحادية العليا بطلب منع ترشح هوشيار زيباري لأنه لا يتمتع بالصلاحية الدستورية لاتهامه بتهم فساد في سنوات سابقة، واستجابت المحكمة الاتحادية لطلب الإطار التنسيقي وقف إجراءات ترشح زيباري، ونص قرار الدعوى (6/2/2022)، أي قبل 24 ساعة فقط من موعد إجراء التصويت وانعقاد الجلسة على «إيقاف إجراءات الانتخاب لحين حسم الدعوى المقامة ضد زيباري».

 هذا القرار من المحكمة كان صدمة للتحالف الثلاثي وليس لمسعود البرزاني وحده بمنع مرشحه من الفوز بالرئاسة، بل لمقتدى الصدر أيضاً لوضعه في تناقض مع نفسه باعتباره «مناضل ضد الفساد»، وكيف له أن يقف خلف مرشح رئاسي متهم بالفساد، وجاء الرد الانتقامي من الصدر بمنع مرشحيه من حضور جلسة الانتخابات، واستجاب حلفاؤه ولم يحضر جلسة الاثنين الفائت سوى 58 نائباً فقط.

 وهكذا يمكن القول إن الصدر قلب المعادلة رأساً على عقب، خصوصاً في ظل قرار المحكمة الدستورية العليا بأن يكون التصويت على انتخاب رئيس الجمهورية في الجولة الثانية أيضاً بأغلبية الثلثين وليس فقط كما كان متبعاً سابقاً بالأغلبية المطلقة، (النصف +1).

وفي الوقت نفسه بعث برسالة ضمنية إلى حليفه البرزاني للتوافق مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني على مرشح كردي توافقي من الاتحاد الوطني لجذب الأخير إلى «التحالف الثلاثي»، ومن ثم امتلاك الكتلة الأكبر الكفيلة بانتخاب رئيس الجمهورية، ومن بعده اختيار رئيس الحكومة، وإخضاع المنافسين من الإطار التنسيقي إلى أمر واقع غير قادرين على وقفه، بل الاستمرار في إعاقته فقط.