شكلت المساعدات الخارجية الدولية رافداً مالياً مهماً لدعم الموازنة العامة للسلطة الفلسطينية وتغطية العجز فيها منذ نشأتها، خاصة في ظل ضعف الموارد المالية، التي باتت إسرائيل تتحكم في النسبة الأكبر منها مع مرور الوقت، واستغلتها كأدة ضغط وابتزاز لانتزاع مواقف سياسية من قيادة السلطة.
ورغم أن السلطة تعلم جيداً أن المساعدات الدوليّة ليست مجّانيّة، بل مرهونة باستمرار مسار المفاوضات بينها وبين إسرائيل، بل إنها فرضت شروطها بتوجيه الجزء الأكبر من المنح والمساعدات على الإنفاق التطويري، بناء المؤسسات المدنية والخدماتية، وتمويل قطاعي التعليم والصحة والبنى التحتية، حتى تبقى خاضعة للتقلبات السياسية، وهذا بالفعل كان أهم عامل يقف خلف عدم استمرار وانتظام هذه المساعدات في أوقات الصدام مع إسرائيل، إلا أن السلطة الفلسطينية عجزت عن إصلاح هذا التشوه الهيكلي في مواردها التي باتت في قبضة الإسرائيلي المفوض بالجباية على البضائع والسلع المستوردة نيابة عن السلطة على الموانئ والمعابر بموجب بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي كان سبباً في خلق حالة تبعية عميقة للاقتصاد الفلسطيني واعتماه بشكل كبير على الاقتصاد الإسرائيلي، بدرجة ارتباط أكبر من كل خطط الانفكاك.
فمثلما نشأ الدين العام في أول موانة للسلطة قامت بإعدادها عام 1995، وأصبح بنداً دائماً يتزايد بنسبة نمو وصلت إلى 36% حتى يومنا هذا، كان أيضاً بند المساعدات الدولية موجود ونما وتطور وشكل نسبة كبيرة مقارنة بالدين العام وصلت إلى نسبة 93% عام 2008، حيث بلغت المساعدات في هذا العام 1.45 مليار دولار، مقارنة مع إجمالي الدين العام الذي بلغ 1.557 مليار دولار.
يصبح مشهد تراجع المساعدات الدولية وتعاظم الدين العام أكثر وضوحاً، لو استعرضنا السنوات التي تلت عام 2014، وهو العام الذي تعثرت وتوقفت فيه مفاوضات مسار التسوية الفلسطيني الإسرائيلي، حيث تراجعت المنح والمساعدات الخارجية من 1.13 مليار دولار عام 2013م، إلى 945 مليون دولار في العام الذي يليه، والذي تزامن مع تغيير حكومي بموجبه انتهت ولاية الدكتور سلام فياض رئيساً للوزراء، وتم تعيين الدكتور رامي الحمدالله رئيساً جديداً للحكومة الفلسطينية، واستمر تراجع المنح والمساعدات بوتيرة أكبر حتى وصلت إلى 467 مليون دولار عام 2019م، وهو العام الذي شهد أيضاً تغييراً حكومياً، حيث تم تكليف الدكتور محمد اشتيه رئيساً للحكومة خلفاً للدكتور الحمدالله، إلا أنه لم يطرأ أي تحسن على حجم المنح والمساعدات الدولية المقدمة للسلطة، بل أنها تراجعت بشكل كبير خاصة عندما قررت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب قطع كافة المساعدات الأميركية المقدمة للسلطة في إطار الضغط عليها للقبول بصفقة القرن في حينه، عقب ذلك تراجع ملحوظ للدعم المقدم من الدول العربية والغربية بما فيها الإتحاد الأوروبي لأسباب كثيرة من بينها غياب الحياة الديمقراطية عن كل مؤسسات وأركان النظام السياسي الفلسطيني، مما جعلها غير مؤهلة لأن تحظى بثقة وأولوية الدول المانحة، خاصة بعد أن أصبحت أنظار العالم تتجه نحو قضايا ذات أهمية شغلت الرأي العام أكثر من القضية الفلسطينية، مثل قضية معاناة اللاجئين السوريين والصراع في اليمن والعراق وتدهور الأوضاع الاقتصادية في لبنان وغيره.
أنهى العام 2021 آخر فصوله، بتراجع خطير للمنح والمساعدات الخارجية، إذ لم يتجاوز إجمالي ما وصل لخزينة السلطة مبلغ الـ 70 مليون دولار، أي بنسبة 16% مما هو متوقع في الموازنة العامة، ورافق هذا صعود للدين العام إلى مستوياتٍ قياسيةٍ، حيث بلغ 3.8 مليار دولار (2.4 مليار للبنوك،و1.3 ديون خارجية)، وإذا أضفنا له متأخرات والتزامات وزارة المالية لهيئة التقاعد والموردين المحليين والدوليين ومستحقات القطاع الخاص والموظفين فإنها تصل إلى 7.9 مليار دولار.
أظهرت البيانات التي أعلن عنها وزير المالية بالحكومة الفلسطينية شكري بشارة حول تحسناً في جانب الإيرادات، إذن ارتفعت إيرادات ضريبة المقاصة بنسبة 25% على أساس سنوي، لتصل إلى 2.39 مليار دولار حتى نهاية تشرين الأول الماضي، وزيادة الإيرادات المحلية خلال الفترة نفسها بنسبة 31% إلى 1.28 مليار دولار، وفي نفس الفترة تراجع كبير للمنح والمساعدات الدولية، وتعاظم وارتفاع الدين العام، يدل على فشل إداري كبير للحكومة الفلسطينية، التي لم تحرز أي تقدم لمعالجة أية من القضايا العالقة مع دولة الاحتلال، وعلى رأسها استمرار إسرائيل بالاقتطاع من أموال المقاصة بحجة أنها أموال تدفعها السلطة كرواتب لعوائل الأسرى والشهداء، حيث اقتطعت إسرائيل ما يقارب 1.4 مليار دولار حتى نهاية العام 2021م، أي ما يمثل 42% من عجز الموازنة، يضاف لها حوالي 451 مليون دولار يتم اقتطاعها تحت بند صافي الإقراض(أثمان كهرباء ومياه ومعالجة مياه عادمة وبدل جباية).
أصبحت خطة التقشف وترشيد النفقات شعاراً فقط، في ظل ارتفاع النفقات الحكومية بنسبة 10%، معظمها على بند الرواتب والأجور، على تعيينات وترقيات جديدة.
وفي ظل استنفاذ الحكومة الفلسطينية لخيار الاقتراض لسد العجز الدائم في موازنتها، بعد أن بلغ حجم قروض الحكومة وموظفيها إلى نحو 4.1 مليار دولار أي ما بنسبة 40% من حجم التسهيلات الائتمانية في فلسطين، فإنه بات عليها القيام بمجموعة من الخطوات الجادة والحقيقية لمواجهة ومعالجة هذه الازمة، وأولى هذه الخطوات هو بذل جهود دبلوماسية حقيقية لاستئناف المنح والمساعدات الدولية لخزينة السلطة، وزيادة حجمها لمستويات تغطي قيمة العجز الشهري، بحيث تصبح السلطة قادرة على دفع رواتب موظفيها، وتحويل جزء من الإنفاق التشغيلي إلى الإنفاق التطويري الذي يجلب الاستثمارات ويساعد على خلق فرص العمل، ويقلل من البطالة، وفي نفس الوقت يحسن من جباية الضرائب
ان السلطة وهي أمام مشكلة معقدة لا يبدو في الأفق أية بوادر انفراجة، بات لزاماً عليها تبني خطة إصلاح جذرية في مؤسساتها، عبر دمج الهيئات غير الحكومية في الوزارات لتقليل النفقات، وضبط وترشيد النفقات الجارية فعلاً وليس قولاً، وبخاصة نفقات الرواتب والأجور التي تحتل النسبة الأكبر من نفقات الموازنة.