الحدث الأوكراني..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 

لن نتمكن من تجاهل الحدث الأوكراني. لذا، نؤجّل الكلام عن رواية "أنا حاج"، التي عالجناها في أسبوعين سابقين، وما زالت تحتمل المزيد. وبما أن الحدث الأوكراني مفصلي، ومن عيار ثقيل، فإن في دلالته وتداعياته ما يستدعي أكثر من معالجة، ناهيك عن حقيقة أنه حدثٌ في الميدان، بالمعنى الفعلي، لا المجازي للكلمة، ما يعني أن ملامحه النهائية لم تكتمل بعد، ولن تكتمل، على الأرجح، في وقت قريب، وهذا يعزز من فرص بقائه قيد التداول.
قلنا إن الحدث الأوكراني مفصلي، ومن عيار ثقيل. ولا يبدو أن ثمة وسيلة أنجع للتدليل على أمر كهذا من التفكير في وفرة وغنى ما يستدعي من دلالات تصلح لتفسير المفصلي والثقيل في ما نرى على شاشة التلفزيون ونسمع من أخبار. ونختار، كالعادة، ما لا ينال النصيب من التفكير والتدبير.
نبدأ بحكاية لا تمت إلى الموضوع بصلة. والرهان، هنا، أن في اكتشاف صلة معيّنة ما يصلح مدخلاً للكلام في، وعن، الحدث الأوكراني، وما يجعل منها وسيلة إيضاح للتدليل على أهميته في تاريخ العالم.
اتصل بي قبل عامين معد لبرامج وأفلام وثائقية في التلفزيون الألماني، قائلاً إنه يعد برنامجاً وثائقياً عن محمود درويش ويرغب في طرح أسئلة على أشخاص أطلوا على عالم الشاعر القومي للفلسطينيين عن كثب. وأذكر أنه اتصل بصديقي إبراهيم أبو هشهش للغرض نفسه. أجبت على الأسئلة في اتصال هاتفي طويل. ولفت انتباهي سؤال تكرر بصيغ مختلفة، ويتعلّق بموقف محمود درويش من "العنف". لا أعتقد أن السائل كان يريد النيل من الشاعر، أو من شعبه.
كل ما في الأمر أن السائل كان ابن زمانه ومكانه: نشأ في أوروبا الغربية، وأنهى تعليمه الجامعي، وبدأ حياته المهنية، في عالم ما بعد الحرب الباردة، التي ربما عاش جانباً منها في طفولته، ولكن عالمه تكوّن واكتمل بعد انهيار جدار برلين، في ظل الوحدة الألمانية، والاتحاد الأوروبي، ونظام الديمقراطية الليبرالية. في مخيال كهذا، صارت الدلالات السياسية لمسألة العنف في الصراعات القومية شبحية، ووثيقة الصلة بعالم مضى وانقضى، كما تشوّهت، وأصبحت مروّعة، ومنفّرة تماماً، مع صعود الإسلام السياسي، وموجة الإرهاب التي ضربت العالم.
ومع ذلك، لكل منّا زمانه ومكانه، ومن عمى البصر والبصيرة: تجاهل تاريخ الكولونيالية في آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية، وإنكار الصلة بين عنف وجشع وظلم ظاهرة الكولونيالية من ناحية، وصعود ظاهرة التحرر الوطني في المستعمرات، من ناحية ثانية.
ومن الحماقة، بالتأكيد، وصم حركات التحرر الوطني بالإرهاب، بأثر رجعي، أو اعتبار الجهاديات الإسلامية، على اختلاف تسمياتها وراياتها، امتداداً طبيعياً للحركات المذكورة، ووريثاً شرعياً لما عُرف في أدبيات الماضي بالعنف الثوري (الصحيح أن أغلب تلك الجهاديات نشأت في دفيئات حظيت بحماية وتشجيع المتروبول الغربي).
وأخيراً، (ومن باب ذكِّر إن نفعت الذكرى) تنص القوانين والمواثيق الدولية على عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوّة، وعلى حق الشعوب في مقاومة المحتلين. وثمة محاولات جادة، فعلاً، لشطب هذه النصوص من التداول في العالم، ومعها الحق في تقرير المصير، وتعريف الحرب العادلة.
على أي حال، نقول اليوم، بأثر رجعي، ومن شرفة حاضر يطل على زمن مضى: لم يكن عالم الكفاح في سبيل الاستقلال والتحرر الوطني مثالياً، تماماً، كما صوّرته سرديات ما بعد الاستقلال. ولا كانت أنظمة ما بعد الاستقلال جديرة بما بذل الناس، في آسيا وأفريقيا، وأميركا اللاتينية، في سبيلها من دم ودموع. ومن ذلك، من النذالة، وعمى البصر والبصيرة، إدانة الكفاح في سبيل الحرية والاستقلال في الماضي والحاضر والمستقبل.  
لا نتكلّم عن النذالة، وعمى البصر والبصيرة، حرصاً على، ودفاعاً عن، قيم نعتقد أنها نبيلة وحسب، ولكن لأن الانخراط في الحاضر، والتأقلم معه، صار مشروطاً بفقدان القيم، أيضاً. فالمرجعية الوحيدة هي السوق، ولا قيمة أعلى من مبدأ الربح. والأسوأ من هذا وذاك، أن لا في هذا ولا ذاك ما يضمن الأمن والأمان، أو لقمة الخبز، حتى وإن صارت مشروطة بالذل (اسألوا عرب الحواضر كلهم).
نتكلّم، هنا، عن عالم ما بعد الحرب الباردة، والعولمة، والليبرالية الجديدة (وكلها تسميات لشيء واحد). وهذا العالم ينقسم، الآن، إلى أغنياء وفقراء، ولا يتجلى في معسكرين وقفاً على خطوط تماس جغرافية وعسكرية وأيديولوجية واضحة المعالم، بل في صورة تكتلات غائمة تضم أغنياء وفقراء. تتجلى الفئة الأولى في "أممية" جديدة عابرة للحدود القومية والدينية واللغوية والسياسية. والثانية في "أممية" تنقسم على أسس قومية ودينية ولغوية وسياسية، في البلد الواحد، وعلى صعيد العالم.  
لا يخفى على أحد وجود تباينات، وتراتبية، في، وبين، "الأمميات" الجديدة. وثمة مهام مختلفة على جدول أعمال النخب المهيمنة في هذا الإقليم أو ذاك. ومع ذلك، يتمثّل القاسم المشترك بين هؤلاء في مرافعة أيديولوجية يجب تعميمها عن نهاية التاريخ، وانتصار حضارة الغرب، وحريّة السوق، و"دعه يعمل دعه يمر" بشكل حاسم ونهائي. (مع كل ما يلزم من بنى تحتية، ومقاولين، واستثمارات، وحرفيين) والمهم أن تعميم هذه المرافعة مشروط بالعنف السافر، إذا لزم الأمر، وازدواجية المعايير، ولكن بتسميات وعناوين جديدة. (فكّروا في اليمن والحواضر العربية المُستباحة، أو في إبراهيم وسلامه).
وصلنا إلى أورويل، طبعاً. سنفسّر هذا كله في معالجة لاحقة، ولكن قبل الختام فلنقل إن الحدث الأوكراني يقوّض الطمأنينة الأيديولوجية لعالم ما بعد الحرب الباردة، لا في أوروبا وحدها، ولكن في كل مكان آخر من العالم، بما فيه الشرق الأوسط، الذي نحن من نتاج زمانه ومكانه. فاصل ونواصل.