“أثبتوا بأنكم معنا، أثبتوا بأنكم لن تسمحوا لنا بالذهاب. أثبتوا بأنكم أوروبيون من أجل تغلب الحياة على الموت والنور على الظلام”، هكذا توسل الرئيس الأوكراني، فلودومير زيلينسكي، على شاشة فيديو أمام أعضاء البرلمان الأوروبي الذي عقد جلسة خاصة لمناقضة الأزمة في أوكرانيا. الأعضاء المحترمون الذين زينوا بدلاتهم بدبوس معدني صغير على شكل علم أوكرانيا، وقفوا وصفقوا للرئيس الذي يكافح من أجل حياة دولته وحياته. واستمروا في مناقشة أمور، من بينها طلب رسمي لأوكرانيا بالانضمام للاتحاد الأوروبي.
في الوقت نفسه، افتُتح في لندن مركز لجمع المواد الغذائية والملابس لنصف مليون لاجئ تقريباً، الذين هربوا من بلادهم، في معظمهم إلى بولندا. الشبكات الاجتماعية مليئة ببيانات الدعم والتأييد والاستعداد للتطوع، والعقوبات الاقتصادية الأشد التي فرضها المجتمع الدولي على روسيا دخلت حيز التنفيذ وتسببت بصدع في اقتصاد روسيا. ولكن هناك جسم واحد ووحيد يمكنه تهديد الاحتلال الروسي بصورة جوهرية، وما زال يلعب الاستغماية.
حلف الناتو غير مستعد للحرب من أجل وجود أوكرانيا كدولة مستقلة. الرئيس الأمريكي وزعماء جميع الدول الأعضاء في الحلف الذي تم تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية، قالوا إنه “لن تكون هناك أقدام غربية على أراضي أوكرانيا” أو طائرات أو مدافع. المبرر الرسمي هو أن أوكرانيا ليست دولة عضوة في الناتو، لذلك فإن هذا الحلف غير ملزم بأن يهب لحمايتها عسكرياً.
المبرر غير الرسمي هو أن الولايات المتحدة والغرب يخشون من حرب عالمية ثالثة قد تتصاعد إلى حرب نووية. قانونياً، موقف الناتو منصوص عليه بشكل جيد في ميثاقه. وبما أنه لم تتوجه أي دولة عضوة في حلف الدفاع بطلب لتفعيل المادة الخامسة في الميثاق، التي تحدد نوعية الدفاع المشترك، والتي تنص على أن الاعتداء على أي دولة هو اعتداء على جميع الدول الأعضاء، فإن الحلف معفي من العمل.
ولكن هذا الموقف القانوني البارد لم يزعج الناتو في مهاجمة ثلاث دول سابقاً لا تعتبر أي منها عضوة في الحلف. في 1995 طلب السكرتير العام للأمم المتحدة بطرس غالي، من الناتو البدء بعمليات قصف ضد قوات الجيش الصربي في البوسنة التي خرقت حدود المنطقة المحظورة أمام الطيران والتي اعتبرتها الأمم المتحدة منطقة لجوء للبوسنيين. المبرر الذي وجهه غالي هو حماية أرواح ومنع التطهير العرقي وإبادة شعب، وليس تهديداً على أمن دول الناتو أو أمن دول أعضاء في الأمم المتحدة. ورغم ذلك، اعتبر عمل الناتو مشروعاً؛ لأن الحلف طلب منه ذلك من قبل الأمم المتحدة، وتم تفويضه من قبل مجلس الأمن لتنفيذ ذلك.
البروفيسور شارون بردو، رئيس الرابطة الإسرائيلية للدراسات الدولية ومحاضر في قسم السياسة والإدارة في جامعة بن غوريون في النقب، شرح للصحيفة بأنه حسب ميثاق الأمم المتحدة، فإن “أي استخدام للقوة من قبل دولة أو منظمة ضد دولة أخرى، يحتاج إلى مصادقة مجلس الأمن. وبدون هذه المصادقة، فهو عمل غير قانوني”.
لم يعمل الرئيس كلينتون بهذه الصورة في 1999 عندما أمر هو وقوات الناتو بمهاجمة قوات الجمهورية الفيدرالية اليوغسلافية التي نفذت ما وصف بأنه إبادة شعب للألبان في كوسوفو. توجه الرئيس كلينتون في الحقيقة لمجلس الأمن للحصول على مصادقته على هذه العملية العسكرية. ولكن هذا الطلب رفض بفيتو من روسيا والصين. ورغم ذلك، خلافاً لميثاق الأمم المتحدة، ورغم حقيقة أن الحرب في كوسوفو لم تهدد أي دولة من دول الناتو، فقد استخدم كلينتون جيشه وقوات الناتو. أيضاً هنا شكل التهديد بإبادة شعب والمس بحقوق الإنسان أساساً لقرار الرئيس الأمريكي.
وأوضح البروفيسور بردو أنه تم اتخاذ عدد من القرارات في الأمم المتحدة وأحكام قضائية أصبحت جزءاً من القانون الدولي، التي بحسبها يعتبر خرق حقوق الإنسان مساً بالأمن الدولي، لذلك يمكن أن تشكل الأساس للتدخل العسكري، وتفعيل المادة 5 في ميثاق الناتو بشكل غير مباشر. ولكن حسب قوله، “في هذه الحالة أيضاً، هناك حاجة للحصول على مصادقة مجلس الأمن على أي عملية، التي لا تشكل دفاعاً ذاتياً عن تجاوز تفعيلها”.
الخط الفاصل
المرة الثالثة التي تم فيها تفعيل قوات الناتو كانت عندما لم يتحقق شرطان أساسيان، وهما حماية حقوق الإنسان و/ أو تهديد دولة عضوة في الناتو. في العام 2011 هاجمت طائرات الناتو قوات معمر القذافي في ليبيا التي هاجمت المتمردين ضده، وأحدثت انعطافاً أدى إلى سقوط القذافي وقتله. وفي حينه، تم توجيه انتقاد شديد للرئيس أوباما بسبب قرار مهاجمة ليبيا مع قوات الناتو. ولكن الرئيس رفض هذا الانتقاد بذريعة أنه عمل بناء على قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة، الذي اتُخذ في 2005 ووقعت عليه جميع دول الأمم المتحدة. نص القرار في حينه على “المسؤولية عن الدفاع” الملقاة على الدول لحماية حياة البشر ومنع ارتكاب جرائم ضد الإنسانية عندما لا تستطيع الدولة التي تنفذ فيها هذه الجرائم القيام بمسؤولياتها. تم تفعيل هذه العقيدة للمرة الأولى في ليبيا، ولكن وبصورة انتقائية مميزة، تم التخلي عندما حدث العصيان المدني في اليمن والسودان.
في أوكرانيا، تتبلور دلائل على عدم قدرة الحكومة على حماية مواطنيها من هجوم روسي كثيف، ومن مس جوهري بحقوق الإنسان وتنفيذ أعمال يمكن اعتبارها جرائم ضد الإنسانية، التي ستتفاقم كلما سيطرت القوات الروسية على الدولة. ولكن مقابل تدخل الناتو في البوسنة وكوسوفو وليبيا، التي لم تشكل أي خطر أو تهديد على الدول الأعضاء في الناتو أو على “السلام العالمي”، فإن الدفاع الدولي عن حياة الإنسان أو حقوق الإنسان في أوكرانيا يخفي تهديداً كبيراً على أمن العالم جراء مواجهة عسكرية مع روسيا.
هذا الاعتبار يهدد الآن مفعول الاعتبارات الإنسانية، ويبني نوعين من المواطنين: الذين يتمتعون بالحماية الدولية والذين سيضطرون إلى الاكتفاء بأقوال التشجيع والعزاء وإرساليات الغذاء والملابس. الخط الفاصل بين نوعي المواطنين يتحدد حسب القرب الجغرافي من روسيا. في هذا التقسيم، يتوقع أن ينهار المبدأ الأساسي الذي يوجه الناتو والدول الغربية بشكل عام، والذي يلزم جميع دول الناتو بأن تهب لحماية دولة عضوة تتم مهاجمتها.
أوكرانيا في الحقيقة تقدم مبرراً قانونياً لعدم التدخل، ولكن هل سيكون الناتو وأعضاؤه مستعدين للذهاب إلى حرب ضد روسيا إذا ما قررت الأخيرة مهاجمة دول “هامشية” مثل ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا؟ أمن أجل هذه الدول يستحق الأمر إشعال حرب عالمية، أم ينتظرها مصير يشبه مصير أوكرانيا والتسرب من وراء ثقوب التحليل المتعرجة للمواثيق الدولية.