رغم رفض مكتب رئيس الوزراء تقديم تفاصيل عن رحلة الوساطة المتفرعة التي أجراها بينيت والتي أضيفت إليها أمس عدة مكالمات هاتفية مع زعماء أوروبا بما في ذلك مع بوتين، تأتي في الأيام الأخيرة رسائل واضحة جداً من الكرملين، فهل تعبر هذه الرسائل عن إرادة حقيقية لقيصر موسكو أم هي مناورة تضليل؟ هل هي السلم الذي ينزلون به عن الشجرة، أم مجرد إضاعة وقت قبيل الهجوم الوحشي الذي يفترض أن يشن على المدن الكبرى في أوكرانيا (كييف خاركيف، أوديسا) والبدء بحسم المعركة؟ الجواب على هذا السؤال كله بين الأذن اليمنى والأذن اليسرى لفلاديمير بوتين.
لكن الرسائل واضحة جداً؛ بخلاف حبكات الحرب النفسية في الولايات المتحدة، لم يجد الوفد الإسرائيلي إلى الكرملين زعيماً غاضباً، مصاباً بجنون الاضطهاد أو يعاني من الانقطاع. وكما قيل لمقربين ووزراء هنا في إسرائيل، يبدي بوتين عقلانية باردة وحادة يتميز بها بشكل عام. هذه ليست أياماً عادية. وهو في وضع حربي بالتأكيد، يبث بأنه لن يساوم وأن المراحل التالية في هذه “الحملة الخاصة” واضحة له تماماً.
حملة وساطة رئيس الوزراء بينيت، كما تقول مصادر أوروبية، نشأت بعد زيارة المستشار شولتس، الذي يشجع هذه المبادرة. هذه في واقع الأمر حملة إسرائيلية – ألمانية. لشولتس، الذي يعدّ كمتنازل أمام الروس في البداية، الكثير مما يخسره في اتصالات مباشرة مع بوتين، الذي باتت أوساط الجمهور في الغرب تراه مجرم حرب.
بهذا المفهوم، يمكن لرئيس وزراء إسرائيل -وهو ليس جزءاً من غرب أوروبا رسمياً، وله مصلحة كبيرة في مواصلة العلاقات الجيدة مع روسيا (بسبب الجالية اليهودية في أوكرانيا وروسيا وحدود الشمال، الموضوعان اللذان طرحهما بينيت في اللقاء)- أن يخدم الغرب كنوع من عامل مستقل يمكن التنكر من خلاله للاتصالات التي تمت عبره لاحقاً. هذا هو مجال النكران؛ كم هو مجدٍ لرئيس وزراء إسرائيل أن يكون في داخله، هذا سؤال جيد. لم تقل الولايات المتحدة حتى أمس كلمة واحدة بشكل رسمي حول الموضوع. هذا وضع غريب وباعث على الاشتباه، ولعله السبب الذي جعل وزير الخارجية يئير لبيد يسافر اليوم خصيصاً إلى لاتفيا في زيارة لم تكن مخططة، كي يتحدث مباشرة مع وزير الخارجية بلينكن. يمكن الافتراض بأنه سيرغب في التأكد من أن إسرائيل تنسق مع الولايات المتحدة في الموضوع الأوكراني – الروسي. أما بينيت نفسه فقال أمس، إن خطواته كانت “بمباركة كل الأطراف، وهي صيغة أقوى بكثير من “بتنسيق”. نأمل أن يكون هذا هو الوضع بالضبط.
إن رسائل بوتين للغرب في الأيام الأخيرة محددة جداً، وتكمن في مرسيين مركزيين. كلمة سر واحدة هي “إزالة الطابع النازي”. يدور الحديث عن حكايات أنباء روسية ملفقة تعرض الدولة الأوكرانية كلها كحملة فاشية على نمط العملاء في أيام الحرب العالمية الثانية. لقد أوضح الكرملين بكلماته بأن تعبير “إزالة الطابع النازي” لا يقصد به إسقاط زيلنسكي. وبكلمات موسكو في بيان رسمي، لم يعطَ الانتباه الكافي: “نعتبر زيلنسكي الرئيس الشرعي لأوكرانيا”. بالتوازي، فإن التلفزيون الروسي والحكومة وبوتين، كلهم ينشغلون بتضخيم المنهاج التعليمي الأوكراني، والادعاءات بتقديس أبطال اليمين المتطرف المناهض لروسيا من عهد الحرب العالمية – تسمية شوارع في المدن الأوكرانية على أسمائهم. ويعنى الروس هنا بعداء ثقافي تاريخي، عداء يتعارض مع رؤية بوتين بأن الحديث يدور عن “أمة واحدة”. هم يريدون تسوية “لا يكون فيها تحريض”.
وثمة موضوع آخر، وهو نزع السلاح أو تجريد أوكرانيا من السلاح، وهو موضوع حرج. من المهم التشديد: زعيم روسيا لا يطالب بعدم انضمام الأوكرانيين إلى الناتو. فهو يعرف، وقد عرف ذلك حتى قبل الحرب، بأن بوسعه الحصول على هذا. فهو يريد موضوعاً يفهم منه كنزع سلاح أوكرانيا. والغرب يعتبر هذا المطلب غطاء لرغبة بسيطة في إبادة السيادة الأوكرانية. لا، يقول الروس، نحن مستعدون للتحدث عن أسلحة محددة، لنقل صواريخ، تهددنا. ليس حل الجيش. ماذا يعني هذا؟ يمكن التخمين – وهذا تخمين، لأن مكتب رئيس الوزراء يرفض تناول التفاصيل- بأن السؤال عما يريده بوتين بالضبط بشأن القوة العسكرية لجارته، حتى المستوى الأكثر تحديداً للأسلحة، طرحت في محادثاته.
لكن في النهاية هناك أمور بسيطة وواضحة أكثر. كيف يمكن الآن التوقف، والمبادرة إلى مسيرة تمنع المرحلة التالية في الحرب، المرحلة التي من المتوقع أن تكون فتاكة وقاسية أكثر بكثير. بتعبير آخر: ما هو المسار الذي يتم العمل فيه لمنع التصعيد، بخلاف مسألة كيف الوصول إلى سلام حقيقي.
النقطة الأهم: تواصل وكالات الاستخبارات في الغرب اعتقادها بأن بوتين مصمم على استعباد أوكرانيا كلها، وأنه مصمم على القتال أكثر فأكثر. وهي لم تر مؤشرات على أنه يريد النزول عن الشجرة، بل العكس: فقد أقنعته المقاومة الأوكرانية بأن عليه القضاء عليهم. لست على يقين بأنه تقدير صحيح، ولكن الاستخبارات الغربية كانت حتى الآن محقة إزاء أوكرانيا. إن حملة وساطة بينيت، رغم أهدافها النبيلة، تبقى رهاناً مع أثمان محتملة لا بأس بها. لقاء بلينكن – لبيد، اليوم، سيكون حرجاً في هذا السياق؛ إذا أعرب بلينكن عن استياء، ولو كان طفيفاً للغاية، برمشة عينه اليسرى، فمعقول ومجدٍ أن تجري إسرائيل التفافة حدوة حصان عن محاولة الوساطة، وتبدأ بإجراء تقدير الخسائر.