تركيا - تفادي نقطة "اللا عودة"
تركيا هي اللاعب الشرق الأوسطي الذي تبنى الموقف الأكثر وضوحاً حيال الأزمة، والوحيد الذي يوجّه انتقادات واضحة ضد موسكو. في الخلفية، هناك تضافُر لعدة عوامل، أولها حقيقة أن تركيا هي جزء من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بالإضافة إلى طموح أردوغان إلى تحسين صورته ومكانته في الغرب، على أمل أن يثمر الموقف التركي، مستقبلاً، مساعدة خارجية تخفف من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تركيا. ومع هذا، فإن العلاقات الاستراتيجية بين تركيا وروسيا تخفف من السياسة الخارجية لأنقرة، التي لا تزال تمتنع من اتخاذ خطوات "لا عودة" عنها.
التعبير العملي عن الموقف التركي كان إعلان إغلاق مضيقيْ البوسفور والدردنيل أمام السفن العسكرية، بناءً على طلب من كييف والناتو. وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أشار إلى أن الحرب في أوكرانيا تُرغم تركيا على تفعيل معاهدة مونترا التي وقّعتها في سنة 1936، والتي تحدّ من حركة السفن العسكرية الروسية في البحر الأسود. ومع ذلك، تعبّر الخطوة، في الأساس، عن تضامن رمزي مع "الناتو"، ومن غير المتوقع أن تؤثر في الحرب في أوكرانيا.
تدير تركيا شبكة علاقات معقدة مع روسيا. فمن جهة، هناك تنسيق وتعاون وطيد في القضايا الأمنية وقضايا الطاقة (غاز، وسياحة، واستخدام نووي لأغراض مدنية، وبيع سلاح، وغيرها)، ومن جهة أُخرى، يقف كلّ من موسكو وأنقرة على جانبيْ المتراس في سورية وليبيا، كما أن الأزمة الحادة التي اندلعت بين الدولتين بسبب اعتراض مقاتلة روسية في سنة 2015 لا تزال تؤثر في الوعي التركي. وعملياً، عارضت تركيا ضم شبه جزيرة القرم في سنة 2014، وأعربت عن تأييدها العلني لسيادة أوكرانيا، وباعت طائرات متطورة من دون طيار لكييف، وهو ما أثار غضباً روسياً، يومها.
وفي مقابل إعلان إردوغان تفعيل الصلاحيات التي تمنحها له المعاهدة لمنع عبور سفن حرب (28 شباط)، صرّحت تركيا عن امتناعها من فرض عقوبات وإغلاق المجال الجوي أمام الطيران الروسي. ومع ذلك، من شأن استمرار الأزمة الأوكرانية وازدياد الضغوط من جانب الناتو والولايات المتحدة، أن يؤديا إلى التشدد في السياسة التركية حيال موسكو، وزيادة التوتر القائم أصلاً بين البلدين.
الفلسطينيون: "حسم عدم الحسم"
كما سائر العالم العربي، بجد الفلسطينيون أنفسهم وسط مصالح متشابكة أمام الأزمة في أوكرانيا، ويحرصون على عدم تبنّي موقف رسمي وواضح من الموضوع، باستثناء بعض فصائل اليسار الصغيرة، وعلى رأسها الجبهة الديمقراطية التي وقفت إلى جانب موسكو منذ بداية الحرب. فمن خلال مراجعة عدد قليل من التصريحات والتحليلات، من الممكن فهم المزاج العام في المنظومة الفلسطينية. فمن جهة، هناك قلق لدى السلطة من أن الأزمة ستهمّش القضية الفلسطينية على جدول الأعمال الدولي أكثر فأكثر، وتعمّق تراجُع مكانة الولايات المتحدة، في الوقت الذي يقودها رئيس يقدّر الفلسطينيون أنه سيضغط على إسرائيل للمضي قدماً في مفاوضات سياسية بين الطرفين.
لكن من جهة أُخرى، يبدو أن هناك بوادر تساؤلات لدى "حماس"، مفادها أن الأزمة الحالية ستؤدي إلى ضرر كبير في صورة ومكانة واشنطن بشكل سينعكس مباشرةً على إسرائيل. وفي هذا السياق، برز تصريح عضو المكتب السياسي للحركة، موسى أبو مرزوق، وبحسبه، فإن الأزمة الحالية تؤشر إلى فقدان الولايات المتحدة هيمنتها في العالم. وأن "من لا يستطيع تفعيل قوته العسكرية، لا يستطيع أيضاً الدفع بخطوات سياسية"، إلى جانب تحليلات في قنوات إعلامية تابعة للحركة، وفيها ادعاء أن الأزمة تعزز مخاوف وجودية لدى إسرائيل التي تفهم أن دعامتها وحاميتها الاستراتيجية تتضعضع.
موقف "حماس" يعكس متابعة ودراسة معمقة تجري أيضاً، كما يبدو، لدى "حزب الله" وإيران بخصوص الأزمة، تصاحبها محاولة لفهم الدلالات الاستراتيجية العميقة لها، وفي رأسها: هل هناك تغيير في النظام الدولي، وفي إطاره هناك شرعية أكثر مما مضى لاستخدام القوة العسكرية، بصورة تسمح لمحور المقاومة باتخاذ خطوات أكثر جرأة؟ ما هو حجم الضرر الذي لحق بقوة الغرب بقيادة الولايات المتحدة؟ وكيف سينعكس هذا على مكانة إسرائيل وسلوكها؟ وإلى أي درجة سيؤثر الواقع الدولي الجديد في مناطق عمل إسرائيل في كل ما له علاقة بسورية، على سبيل المثال؟
خلاصات
سيكون لنتائج الحرب في أوكرانيا انعكاسات مباشرة على الشرق الأوسط على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي. النجاح الغربي في وضع حدّ للعدوان الروسي، وإظهار قوة من خلال الأدوات الاقتصادية والسياسية للحفاظ على النظام الدولي القائم بقيادة الولايات المتحدة، من شأنه تعزيز مكانة واشنطن في الشرق الأوسط، وبصورة خاصة مع "المحور السّني" الذي عبّر منذ وقت عن قلقه المستمر من تضعضُع مكانة الدعامة الأميركية. هذا الأمر يمكن أن يحدث في الأساس في حال "تراجُع" موسكو، ولكن أيضاً في حال غرقت في صراع طويل ومستمر يستنزف قدراتها في أوكرانيا.
في المقابل، فإن نجاح الاستراتيجية الروسية في أوكرانيا (إخضاع الدولة عسكرياً، أو تنصيب حكومة طوارئ توقّع تنازلات سياسية)، بالإضافة إلى إظهار موقف صامد، والتمسك بأهدافها، مع إبراز ضعف الغرب وأميركا في ردعها، سيسرّع مسار النفوذ الروسي والصيني في الشرق الأوسط. وهذا الأمر يمكن أن يؤدي إلى المزيد من زعزعة أمن "المعسكر السّني" الذي يواجه جرأة إيرانية متزايدة على أكثر من جبهة، إلى جانب توقيع متوقع للاتفاق النووي، وسيدفع به إلى تفاهمات إضافية مع موسكو، بهدف لجم التهديدات المتزايدة لهم.
في جميع الأحوال، إن عودة "الحرب الباردة" بين روسيا والولايات المتحدة ستؤثر في قدرة إسرائيل على المناورة بين القوتين، ومن شأنها حصْد ثمن عالٍ جداً منها. فوجودها الواضح إلى جانب الولايات المتحدة، وتعريفها الولايات المتحدة بأنها السند الاستراتيجي، من شأنه أن ينعكس مباشرة على صورة إسرائيل في عيون اللاعبين في الشرق الأوسط، وفهمهم لحدود العمل مقابلها، وبصورة خاصة إذا اتضح أكثر الافتراض أن تغييراً حدث في قواعد اللعبة والتوازنات الاستراتيجية.
عن موقع "مركز هرتسليا"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحثان في "معهد السياسة والإستراتيجية" في مركز هرتسليا المتعدد المجالات.