اتفاق نواب الحكومة والمعارضة معا في الكنيست الإسرائيلي قبل يومين على التصويت مع قانون المواطنة العنصري واقراره بالقراءتين الثانية والثالثة في نفس اليوم يثبت أن كراهية العرب وممارسة العنصرية ضدهم هي قاسم مشترك بين أحزاب اليمين الإسرائيلية سواء كانت في الائتلاف الحكومي أو في المعارضة. فهذا القانون لم يكن ليمر في الكنيست لولا أن أعضاء المعارضة صوتوا معه خلافا ً للمألوف. فكان الانحياز للعنصرية ضد العرب أقوى من المنافسة الحزبية بين أحزاب اليمين في الحكومة وأحزاب اليمين التي في المعارضة، فاتفقوا معا ً ضد العرب.
وهذا التصويت يؤكد حقيقة أن معسكر اليمين يملك الأكثرية بالكنيست وأن انقسامه الى حكومة ومعارضة لم يكن على خلفية أيديولوجية أو سياسية وإنما على خلفية شخصية لاختلاف بعضهم مع رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو وتأييد البعض الآخر له. ويؤكد هذا التصويت أيضا ً أن السيناريوهات المقبلة للتطورات السياسية الداخلية في إسرائيل تصب كلها في خانة اليمين.
فالحكومة الحالية هي حكومة يمين في جوهرها وبأغلبيتها وليست أصوات القائمة العربية الموحدة وما يسمى إسرائيليا ً باليسار (ميرتس وحزب العمل) المشاركين في الائتلاف الحكومي سوى أداة يستخدمها شركاؤهم من اليمين في الحكومة لتمرير الأجندة اليمينية والتي تتجسد في إضافة آلاف الوحدات الاستيطانية للمستوطنات ، والاستمرار في مصادرة الأراضي العربية ، والمضي قدما في تغيير معالم القدس ، ومساندة المستوطنين المتطرفين في اعتداءاتهم ضد الفلسطينيين ، وتبرير ممارسات ميليشيا المستوطنين المتدينين المتطرفين المسماة “نيتسح يهوده” وجيش الاحتلال وأجهزته الأمنية ضد الفلسطينيين والتي وصلت حد ارتكاب جرائم القتل بدم بارد. وقد ثبت حتى الآن أن وجود الموحدة و”اليسار” في الحكومة لم يمكنهم من تمرير أي شيء جوهري يخدم جماهيرهم وأن اليمين ماض في تنفيذ برامجه رغم أنوفهم، وأنهم اكتفوا بالصراخ ”وتسجيل المواقف” دون أن يجرؤا على اسقاط الحكومة.
الاختراق السياسي على الساحة الاسرائيلية
هذه الحقيقة يجب أن تكون في صلب حسابات القيادة الفلسطينية التي يجب عليها أن تدرك بأن من تدير حوارات أو اتصالات معهم من أعضاء الحكومة الحالية لا عمق لهم في المجتمع الإسرائيلي ولا توجد لهم أي فرصة لإحداث أي تغيير أو اختراق في السياسة الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين.
فالمشكلة الحقيقية بين اليمين الذي يشارك في الحكومة واليمين الذي في المعارضة هي فقط الخلاف الشخصي مع بنيامين نتنياهو، وفي اللحظة التي سيغادر فيها نتنياهو الحلبة السياسية فإنهم سيعودون الى أحضان بعضهم البعض ليشكلوا أكثرية برلمانية يمينية ذات حكومة يمين مستقرة، أو التوجه لانتخابات بغية انهاء الحياة السياسية لرئيس الوزراء الحالي نفتالي بينيت المتهم يمينيا ً بأنه خان اليمين وسرق أصواتهم وأغراه المنصب وشكل الحكومة الحالية مع العرب واليسار ، وهم واثقون من أنه اذا أجريت الانتخابات فإنها ستتمخض عن انتصار كاسح لليمين وتشكيل حكومة يمينية مستقرة ذات قاعدة برلمانية واسعة ، وإنهاء الحياة السياسية لنفتالي بينيت.
وعلى الذين يراهنون على بيني جانتس أو يئير لبيد ويعتقدون أن إجراء اتصالات أو لقاءات معهم تُشكل اقتحاما ً للساحة الإسرائيلية أو إحراجا أو مناكفة ً لرئيس الوزراء بينيت أو مقدمة لتحقيق اختراق سياسي يعيد إسرائيل الى طاولة المفاوضات، أن يأخذوا في الحسبان أن أيا من جانتس أو لبيد لن تكون له أية فرصة ليكون صاحب القرار في أية تشكيلة حكومية قادمة ، وأنهما لن يخرجا عن الاجماع الإسرائيلي الرافض للاعتراف بالحقوق الفلسطينية أو قبول إقامة دولة فلسطينية. وقد أعلن يئير لبيد بأنه إذا عاشت هذه الحكومة ولم تسقط ووصلت مرحلة التناوب وأصبح رئيسا ً للوزراء فإنه سيلتزم بالتعهد بعدم السماح بقيام دولة فلسطينية. وأما بيني جانتس فإن أقصى ما سيسمح به حسب قوله هو كيان فلسطيني. فهل بعد كل هذا يبقى مكان للحديث عن أفق سياسي وعن استئناف للعملية السياسية!
ومع ذلك فإن علينا أن نميّز بين اتصالات ولقاءات مع الإسرائيليين بغية تحقيق إجراءات هدفها التخفيف عن شعبنا تحت الاحتلال وتمكينه من الصمود فوق أرضه من خلال تسهيل حياته اليومية، وهذا أمٍر ٌ مطلوب ومرغوب، وبين الاتصالات واللقاءات بوهم أنها ستحقق اختراقا ً سياسيا ً على الساحة الإسرائيلية وهذا أمر محكوم عليه سلفا ً بالفشل لأنه غير ممكن وفق كل المعطيات على الساحة الداخلية الإسرائيلية ولا يجوز التعويل عليه.
وفي الحقيقة فإن كلا ً من لبيد وجانتس لا يخفي استراتيجيته تجاه الفلسطينيين فهما وغيرهما من قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية يعملون على إذكاء نيران الخلاف بين فتح وحماس ويحاولون استغلال السلطة التي تقودها فتح في حربهم ضد حماس ويقولون علنا هم وشركاؤهم الأمريكيين بأن هدفهم هو تقوية السلطة ضد حماس. وبينما يمارسون الضغوط على السلطة لضرب حماس يقومون هم بضرب البنية التحتية لحركة فتح في الضفة الغربية من خلال الاعتقالات والقتل اليومي لكوادر فتح وخاصة الشباب والفتيان منها. فاللعب على التناقض الداخلي بين فتح وحماس سيكون هدفه إضعاف الطرفين والحيلولة دون أي مصالحة أو تنسيق بينهما لأن ذلك يتعارض مع مصلحة الأمن الإسرائيلي.
وأقول وبكل صراحة أن العقل يحتار حينما يحاول فهم الاستراتيجية السياسية الفلسطينية الحالية، وما أكثر من يسمون أنفسهم خبراء في الشؤون الإسرائيلية وبعضهم قريبون من صناع القرار بل ومن بين صناع القرار.
فعلى الصعيد الإسرائيلي، هناك هيمنة واسعة ومتنامية لليمين الوطني والديني المتطرف داخل إسرائيل ولا يوجد أي أمل في أن يكون هناك أي زعيم إسرائيلي قادر على اعطائنا طوعا ً الحد الأدنى مما يمكن أن يقبل به شعبنا، والمعادلة هي أننا لن نحصل على أي شيء من الإسرائيليين إلا إذا أكرهوا على ذلك.
وأما على الصعيد الأمريكي فإن الرئيس الحالي جو بايدن منهمك في مشاكله الداخلية، وهناك تعاظم متزايد في قوة اليمين الأبيض العنصري التي أطلق لها العنان سلفه دونالد ترمب وحليفه اليمين المسيحي الإنجيلي المتطرف، إضافة ً الى أن بايدن منهمك أيضا في القضايا الدولية المتفجرة والتي تزداد تعقيدا كل يوم وعلى رأسها الحرب الروسية ضد أوكرانيا والتي بات الملف النووي الإيراني هامشيا بالنسبة لها، وكل المعطيات تؤكد بأن بايدن لن يُرشح نفسه للانتخابات المقبلة وأن الرئيس القادم لأمريكا هو من مدرسة الرئيس السابق ترمب إن لم يكن هو نفسه، وأن أحد رموز هذه المدرسة والمتوقع أن يُرشح نفسه، إن لم يترشح ترمب، هو مايك بنس الذي شغل منصب نائب الرئيس في عهد ترمب. وقد حضر لإسرائيل قبل أيام على متن طائرة تملكها أرملة عراب الاستيطان والمستوطنين شيلدون أديلسون واعتبرت هذه الزيارة بمثابة الإشارة الأولى إيذانا ً برغبته بالترشح للرئاسة القادمة. وقد اختار إسرائيل لينطلق منها في إعلان ولائه ليهود أمريكا ولدعمهم المالي له من خلال مغازلته اليمين الإسرائيلي المتطرف، وقد قام بزيارة للكنيس الذي أقيم داخل الحرم الابراهيمي بمدينة الخليل المحتلة والتقى مع اثنين من غلاة المستوطنين من أتباع مئير كهانا وهما عضو الكنيست ايتمار بن جبير وباروخ مارزل.
الخيارات التي أمام القيادة الفلسطينية
ويقينا ً بأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال التعويل على الإدارات الأمريكية سواء الحالية أو القادمة أو على المجتمع الدولي الذي يشهد حاليا مرحلة استقطاب لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية.
ولا شك بأن القيادة الفلسطينية تقف اليوم أمام خيار إما الاستمرار في خداع الذات والتوهم بأن الفرج قادم من إسرائيل قريبا أو من أمريكا، وإما قراءة الواقع السياسي الإقليمي والدولي على حقيقته واتخاذ القرار المصيري المطلوب منها وهو الخيار القائم على تجنيد المقومات الذاتية والطاقات الكامنة فلسطينيا ً والذي يستوجب أولا ً وقبل أي شيء إعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني بكل ما تعنيه هذه الكلمة، والمصالحة فتحاويا ً مع الذات ومع الغير من المكونات السياسية الفلسطينية وحشد كل الطاقات للعمل الوطني المشترك.
وأول شيء يمكن عمله في إطار ترتيب البيت الداخلي هو الاعتراف بأن هناك حالة دمار شامل وعبث داخلي وفساد اداري ومالي مستشرٍ كالسرطان في كل مناحي الحياة نتيجة تغييب المؤسسات الشرعية وفي مقدمتها المجلس التشريعي والحياة البرلمانية واتباع أسلوب الهواة والعمل الفردي والعشوائي على كل الأصعدة وغياب سلطة حكم القانون وانهيار منظومة العدالة الذي تفاقم نتيجة العبث المستمر بالقوانين بما في ذلك تلك التي تتحكم بالقضاء وبسير العدالة، والعمل على إعادة تصويب كل ذلك بأدوات غير الأدوات التي ساهمت في خرابه.
والرئيس عباس باعتباره آخر من تبقى من الرعيل الأول وباعتباره يقف على رأس كل المرافق والمؤسسات ويمسك بكل المفاتيح وباعتباره موضع اجماع شامل داخل المنظمة وداخل حركة فتح وبين الفصائل بما في ذلك تلك المختلفة معه وليس عليه فإنه هو وحده القادر على أن يتحمل المسؤولية التاريخية واتخاذ ذلك القرار التاريخي، وإن لم يفعل هو ذلك فلن يستطيع ذلك أي واحد ممن هم حوله.
لقد عايشت الاحتلال وذقت مرارة ظلمه وممارساته سواء السجن أو المضايقات والملاحقات اليومية، وعايشت حالة الإيفوريا التي انتابت الكثيرين منا بأن نهاية الاحتلال قريبة وأن إقامة الدولة هي قاب قوسين أو أدنى، وعايشت المفاوضات وشاركت فيها حين كان لنا حلم وأمل، وها أنا أعايش حالة انهيار الحلم والاندفاع نحو الهاوية. فهل يقيض الله لي أن أرى من يعيد للحلم الوطني الفلسطيني رونقه؟