الفشل في بناء نظام سياسي وأعراف ديمقراطية ووضع رئاسة البلدية تحت العباءة العشائرية

زياد ابو زياد.jpeg
حجم الخط

بقلم: المحامي زياد أبو زياد

 

لاحظت على بعض مواقع الفيسبوك تعليقات أشبه بالمناكفات تتعلق بمنصب الرئيس في ‏الانتخابات البلدية في مدينة رام الله. وقد دفعني حب الاستطلاع الى عقد لقاءات مع بعض ‏الأصدقاء المسيحيين في رام الله لاستطلاع الأمر، لأن رؤساء عدد من المدن والبلدات الفلسطينية ‏ومن بينها رام الله يجب أن يكون مسيحيا حسب قرار من الرئيس الراحل ياسر عرفات. وقد ‏فهمت منهم أن هناك عائلات مسيحية تقول بأنها “أصلية” في رام الله تُصر على أن رئاسة البلدية ‏يجب أن تكون لأحد أبنائها وأن العائلات المسيحية الأخرى “الوافدة” الى رام الله لا يحق لأحد من ‏أفرادها الترشح لرئاسة البلدية حتى لو كان مولودا فيها أبا ُ عن جد بما في ذلك العائلات ‏المسيحية التي هاجرت من فلسطين عام 1948 وتقيم في رام الله منذ ذلك الحين أي منذ أكثر من ‏سبعة عقود.‏
ولم تمض أيام حتى تفجر نفس الموضوع في مدينة البيرة أثناء مناظرة بين عدد من رؤساء ‏القوائم المرشحة للبلدية وهم من المسلمين هذه المرة، ولكنهم هم أيضا ً يصرون على أن رئاسة ‏بلدية البيرة يجب أن تكون لأحد أبناء العائلات “الأصلية” من البيرة ولا يجوز أن يتولى رئاسة ‏البلدية أي شخص حتى لو كانت عائلته تقيم في البيرة منذ عشرات السنين! ‏
ولكيلا أظلم مسيحيي رام الله أو مسلمي البيرة فقد لاحظت أن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على ‏هاتين البلدتين بل إن هناك شعور سائد في العديد من المدن والبلدات والقرى الفلسطينية يميز بين ‏أبناء البلدة الأصليين وبين من جاء اليها لأي سبب وأقام فيها وتناسل أبا ً عن جد وأسهم إسهاما ‏كبيرا ً في بنائها اقتصاديا أو على أي صعيد آخر!‏
والسؤال هو: هل نحن مجتمع طبقي عنصري؟ والجواب بكل بساطة هو أننا إذا سلمنا بهذه ‏الظاهرة فإننا نستسلم للعنصرية والتمييز ضد بعضنا البعض ليس على أساس عرقي ولا ديني ‏وإنما على أساس نعرة عشائرية قبلية مقيتة فإننا سنكون كذلك.‏
وأسمح لنفسي أن أتساءل: هل عملنا منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية على معالجة ظاهرة ‏العشائرية أم أننا استلقينا في أحضانها وسلمناها الرسن.‏
حين قمنا بإعداد قانون الانتخابات، وكنت حينها رئيسا ً للجنة القانونية في المجلس التشريعي، ‏وقد قمت بعقد ورشة عمل في شرم الشيخ بحضور أربعة عشر عضوا من المجلس من ضمنهم ‏أعضاء اللجنة القانونية ورؤساء اللجان الأخرى مع الحرص على أن تكون كل التوجهات ‏الموجودة في المجلس ومن بينها الكتلة الإسلامية وبمشاركة خبير نرويجي وخبراء محليين، وقمنا ‏بوضع مسودة القانون، تبنينا مبدأ الانتخابات المختلطة أي نصف المقاعد على أساس النسبية ‏والنصف الآخر على أساس الانتخابات الشخصية. وقد كان واضحا ً للجميع بأن الانتخابات ‏النسبية هي انتخابات قائمة على أساس سياسي أو بعبارة أدق على أساس برامج. وقد تم وضع ‏قانون الانتخابات المحلية لاحقا على نفس الأساس. ثم قام الرئيس محمود عباس بعد انقسام ‏‏2007 بتعديل القانون وتبني النسبية الكاملة.‏
فأين الخلل؟ وكيف يمكن لأي مواطن أمريكي من أي أصل كان، حتى لو كان والده مولود في ‏أفريقيا أن يتولى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية شريطة أن يكون هو نفسه مولود في أمريكا ‏كما كان الحال مع الرئيس الأسبق براك حسين أوباما أو مع أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية ‏السابقة القادمة من المانيا الشرقية، بينما لا يحق لفلسطيني مولود في رام الله وآباؤه وأجداده من ‏مواليد رام الله أن يتولى رئاسة البلدية أو لشخص مولود في البيرة أو أي بلدة أخرى أن يتولى ‏رئاسة بلديتها طالما أنه ليس من العائلات “ألأصيلة” فيها!!‏
وكما ذكرت آنفا ً فإن الأصل في انتخابات القوائم النسبية هو أن تجري على أساس سياسي أو ‏على أساس برامج سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ولكن وبالتأكيد ليس على أساس عشائري. ‏ولكننا فشلنا في بناء نظام سياسي يقوم على أساس التعددية ويترفع فوق الاعتبارات الشخصية ‏والعشائرية.‏
نحن ندعي بأننا نشكل القوائم على أساس سياسي ولكننا في الحقيقة رهنا أنفسنا للعشائر وللعائلية ‏البغيضة لأن كل التنظيمات الفصائلية التي لدينا فشلت في وضع برنامج وبناء نظام سياسي ‏وخوض الانتخابات على أساس برامج وليس على أساس عشائر.‏
فقد تبنينا مبدأ النسبية الكاملة في تجمعات سكنية لا يزيد عدد أعضائها عن بضع مئات فهل يعتقد ‏أحد بأن بإمكان تلك التجمعات خوض انتخابات على أساس برامج؟
وأضيف وأقول بأن غياب القوى السياسية الرئيسية وفي مقدمتها حماس عن الساحة وغياب ‏المنافسة الحزبية ألقى ظلاله على الساحة، إضافة الى أن الوضع العام أسلم الناس الى الملل والى ‏عدم المبالاة بما يجري من حولهم، وجعل حركة فتح التي وجدت نفسها اللاعب الوحيد في ‏الساحة تلهث وراء العائلات والعشائر وتحاول استرضائها وتطلب منها أن تقوم هي باختيار من ‏يمثلها. وهنا أصبحت حركة فتح أسيرة العشائر والحمائل تحمل على أكتافها الأشخاص المتنفذين ‏في تلك العشائر والحمائل بغض النظر عن المقومات الذاتية لذلك الشخص الذي يقوم أحيانا ً ‏بفرض نفسه على عشيرته بالقوة. ‏
النعرة التي ظهرت في رام الله والبيرة وموجودة بالتأكيد في معظم المدن والبلدات والقرى ‏الفلسطينية هي ظاهرة أقل ما يُقال فيها أنها ظاهرة مؤسفة لا يجوز بأي حال من الأحوال القبول ‏بها أو التعامل معها، وعلى المواطن بوعيه وحسه الوطني أن يقوم بإفشالها لأن المصلحة العامة ‏هي التي يجب أن تحكم الإدلاء بالورقة في صناديق الاقتراع وليس أي اعتبار آخر.‏
ومع كل ذلك، فإن علينا أن نملك الجرأة بالقول بأن من يتحمل مسؤولية هذه الظواهر السلبية هي ‏القيادة السياسية ومعها كل الفصائل والقوى السياسية سواء الحاضرة على الساحة أو الغائبة عنها ‏لأنها جميعا ً فشلت في تطوير وبناء النظام السياسي الفلسطيني وتنظيم الحياة السياسية من خلال ‏قانون أحزاب ينظم الحياة السياسية الحزبية ويؤسس لأعراف برلمانية تؤمن بالتعددية والتداول ‏السلمي للسلطة من خلال صناديق الاقتراع على أساس برامج وليس على أساس نعرات جغرافية ‏أو اجتماعية أو طائفية.‏
وهنا نعود للمربع الأول الذي لن نكل ولن نمل من ترداده وهو ما يجري من حولنا من إفشال ‏للحياة البرلمانية من خلال تغييب الشرعية البرلمانية واستمرار التفرد في العبث بالشأن العام ‏بتصرفات استعراضية لا تخاطب الهموم الأساسية للمواطن وهي وضعه على طريق انهاء ‏الاحتلال وإقامة الدولة. فاستحداث محاكم ذات مسميات كبيرة مثلا ً ،ربما هي أكبر من حجمنا ‏وطاقاتنا، لا يُعفي من مسؤولية إعادة الشرعية البرلمانية لأن حتى مجرد تأسيس هذه المحاكم ‏بمراسيم تصدر عن السلطة التنفيذية هو تكريس لإلغاء مبدأ الفصل بين السلطات الذي هو ‏الأساس لأي عمل سيادي، واستمرار استحواذ السلطة التنفيذية على السلطات الثلاث دون رقابة ‏أو مساءلة.‏
وختاما ً أقتبس جملة من رسالة كتبها عمر ابن الخطاب الى أبي موسى الأشعري تتضمن رؤية ‏ابن الخطاب لمفهوم القضاء وهي من أجمل الوثائق القضائية، يقول فيها : “إن الحق قديم ‏والرجوع الى الحق خير من التمادي بالباطل”.‏