قبيل اغتياله، وقعت حادثة عُرفت باسم "قضية أبو حميدو"، عالجها غسان كنفاني في مقالة طويلة شاء القدر أن تكون آخر ما كتب، ونشرتها "شؤون فلسطينية" في عدد آب 1972، إلى جانب رثاء كتبه محمود درويش، الذي كان عضواً في هيئة تحريرها، في وداع الراحل الكبير.
مُلخّص القضية أن فدائياً فلسطينياً في قاعدة قرب بلدة لبنانية، اتُهم باغتصاب شقيقتين في وقت واحد. قام شقيق الفتاتين بقتلهما، وقضت محكمة ثورية بإعدام الفدائي في ساحة البلدة، ولكن الأهالي رفضوا وأصروا على خروج المقاتلين من البلدة وجوارها. وخلال عملية الخروج أغار الطيران الإسرائيلي على الخارجين، وأصيب "أبو حميدو"، الفدائي المُتهم، بجروح بليغة.
يشكك كنفاني في صدقية رواية الاغتصاب، ويوجّه أصابع الاتهام إلى مجتمع لا يحمي النساء، ويقتل باسم الشرف، ويتساهل مع القتلة. ويحلل الحكم على "أبو حميدو" بالإعدام، من زوايا مختلفة: العلاقة المطلوبة بين الفدائيين وحواضنهم الاجتماعية، وثقافتهم، وما زوّدهم به التنظيم من وعي. فإذا وقع خلل يكون على عاتق المسؤولين أولاً، لأنهم لم يحرصوا على تكريس قيم ثقافية ووعي جديدين. فالثورة تعني ثورة في الوعي، أيضاً، والمسألة أبعد وأعقد من سلوك الفدائي الفرد.
أذكّرُ بكنفاني في معرض الكلام عن مصيبة هدى وصالونها، للقول إن نقاش "المثقفين"، إذا تحلوا بالمسؤولية المهنية والأخلاقية، هو التساؤل بشأن ردّة الفعل الغاضبة والاستثنائية من جانب أشخاص انهالوا على السيناريو، والفيلم، والمخرج، والممثلين، بالشتائم المقذعة، ناهيك عن عقد اجتماعات، ومطالبة مؤسسات "ثقافية"، وممثلين للحقل الديني، بحظر الفيلم.
وأخيراً، وليس آخراً، رفع محامون شكوى ضد الفيلم وطاقمه مطالبين بمحاكمة هؤلاء، على طريقة "الحسبة" المعمول بها في مصر، والتي كان من نتائجها الكافكاوية التفريق بين رجل وزوجته. لذا، أُرغم مثقف وأكاديمي لامع، من وزن نصر حامد أبو زيد، على العيش مع زوجته خارج مصر. الخلاصة بعد شكوى المحامين: "كم كذبنا حين قلنا نحن استثناء"، كما كتب محمود درويش تعقيباً على انقلاب، وشبه حرب أهلية، صارا بعيدين.
إذاً، أوّل خيط استعنّا بأبي فايز الحبيب لكي نشدد على أهميته وراهنيته، هو توسيع حدقة العين، والبحث في العمق، وتفادي الشعبوية، سواء تذرّعت بالحياء العام أم فلسطين. فالمشكلة ليست في أن تكون مع قضية أو ضدها، بل أن تسعى إلى فهمها في العمق لا على السطح. والضمير المهني (العمل في الحقل الثقافي مهنة، أيضاً) يُلزمنا بتفادي العنف اللغوي، والغضب المُفتعل، الذي لا يفسد، كما نلاحظ، شهية الغاضبين وقت الأكل، أو ينغّص عليهم قيلولة ما بعد الظهر.
أما الخيط الثاني، وما زلنا في درس "أبو حميدو"، فيتمثل في البحث عن الجذور الاجتماعية (الطبقية) والسياسية للغضب، والعنف اللغوي، في "وطنية" الوطنيين الجدد. نعرف وطنيين من طينة مختلفة برهنوا عليها تلك النار الحارقة في ميادين كثيرة. ومع ذلك، لا "ينفش" هؤلاء ريشهم، لأن في الأمر شبهة المزايدة، وهي فعل رخيص في كل الأحوال. تساوت الكثير من الرؤوس في أيام سدوم وعمورة هذه.
لماذا فشلت حركة ثورية، كانت مشروعاً لتثوير الوعي، على مدار ستة عقود أعقبت إنشاء منظمة التحرير، في الإطاحة بقيم المجتمع البطريركي، وبقايا الإقطاع، والتذبذب الأخلاقي للبرجوازية الصغيرة (هذا لو استخدمنا تعبيرات مألوفة لدى كنفاني، ولم تعد شائعة في سدوم وعمورة)؟ ولماذا وصلنا إلى نتيجة مخيّبة للآمال إلى حد يثير الفزع؟
فقبل خمسين عاماً كانت فكرة الفلسطينيين عن الحياء العام، وعمّا يخدش ولا يخدش أفضل بكثير مما هي عليه الآن. وكانت فكرة "المثقف" عن دوره تعني هدم قيم اجتماعية وسياسية وثقافية سائدة والتبشير بقيم ووعي جديدين. لا علاقة بين الأرض والعرض، والوطنية، كما الإبداع في مختلف الفنون، تعني الصدام مع قيم وقوالب تقليدية قائمة.
واللافت أن غسّان كنفاني يستعين بفكرة مفادها أن على الجيوش الثورية (تعني مقاتلي حرب العصابات بلغة ذلك الزمن) مراعاة واحترام القيم السائدة في مناطق عملها. ولكن هذا السلوك رغم أهميته وضرورته، قد يؤدي إلى تحوّل الجيوش المعنية إلى قوى محافظة، أي إلى تكريس الوعي القائم لا تثويره. وهذا يعني أن المثقف الثوري، في نظره، لا يكف عن السجال حتى مع أفكاره. على أي حال، لم نكن جيوشاً ثورية، ولم ينجح أحد في تعميم ما يمكن تسميته بالوعي الجديد، والواقع الذي بشّر غسان كنفاني بتغييره يبدو جنّة مقارنة بهذه الأيام.
لم يطلب كنفاني أوراق القضية ليتأكد ما إذا كان أبو حميدو مذنباً أم لا، ولم يذهب إلى البلدة المعنية للاستطلاع، ولم يركب الموجة (أي لم يكمل "عدّة" الرأي والرأي الآخر، على قاعدة النصب والنسبية الأخلاقية المسمومة "للجزيرة القطرية"، أي الوجه الآخر لعملة سدوم وعمورة)، بل حوّل القضية إلى نقاش للوعي، وعلاقة الفدائيين بالمجتمع، ومسؤولية الفصائل عن أخلاق مقاتليها.
لذا، لا نحتاج لرؤية هدى وصالونها لنكون أكثر موضوعية، بل ينصب الاعتراض على مصيبة اسمها خدش الحياء العام (بصرف النظر عمّا خُدش، ومَنْ خَدش، هذه المرّة) وعلى الشكوى من فيلم يشوّه صورتنا (بصرف النظر عمّا شُوّه، ومَنْ شَوّه، هذه المرّة).
وهل ثمة من تشويه لصورتنا أفدح من استيلاء جماعة على قطاع غزة، وفشل الشعب والفصائل والشخصيات والمبادرات والمفاوضات والمظاهرات والوساطات العربية والدولية في تحقيق "المصالحة" على مدار عقد ونصف مما تعدون؟ ما المُعيب أكثر هذا الفشل أم امرأة أُسقطت، أو تعرّت؟ في تواريخ الشعوب الكثير من المسكوت عنه، ومصيبتنا أن مساحة المنطوق والمسموح تضيق بشكل لا يُطاق.