الغرب يزايد مع روسيا وينبطح أمام إيران

حجم الخط

بقلم رغدة درغام

ليس هناك وضوح في جوهر الاستراتيجية الغربية نحو روسيا، لا سيّما بعدما قرّر الغرب أن المنافس أو العدو الأكبر هو الصين. المسألة باتت أكثر تعقيداً في ضوء غزو روسيا أوكرانيا واستحالة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، مهما بدا اليوم أن من الممكن نجاح المفاوضات الجارية في تركيا بين الوفدين الروسي والأوكراني. العقدة تكمن في التصوّر الاستراتيجي لموقع روسيا ومكانتها في الحسابات الغربية، والسؤال هو: هل الأمر يتعلق بروسيا نفسها أم بـ"البوتينية"؟.

 

العلاقات الأميركية - الأوروبية - البريطانية تعيد اختراع نفسها في هذه الحقبة، بعدما كانت قد مرّت بأزمة أثناء رئاسة دونالد ترامب حين واجه أعضاء حلف شمال الأطلسي (ناتو) على صعد عدة. جاء الرئيس جو بايدن بأجندة الانقلاب على كل ما مثّله وفعله دونالد ترامب، وفي طليعة ذلك أولاً، توطيد العلاقات الأميركية - الأوروبية وضخ النشاط في حلف الناتو بكل أبعاده، بالذات نحو روسيا. وثانياً، إحياء الاتفاقية النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي أبرمت في عهد الرئيس باراك أوباما حين كان جو بايدن نائباً للرئيس، وأُنجزت على أيدي الفريق ذاته الذي يصرّ اليوم على إعادة إحياء الاتفاقية النووية بأي ثمن كان. وهنا أيضاً يُطرح السؤال حول جوهر الاستراتيجية الغربية نحو إيران كما نحو الدول الخليجية العربية بل والدول العربية أجمع.

 

هناك ترابط الأمر الواقع بين ما يحدث في العلاقة بين الغرب وروسيا بسبب الحرب الأوكرانية وإفرازات العقوبات ضد روسيا على النفط والغاز، وما يحدث في علاقة الغرب بالدول العربية نتيجة تداعيات العلاقات الغربية - الإيرانية على سلوك إيران في الشرق الأوسط، بالذات في الجغرافيا العربية. استطلاع آفاق هذا الترابط ليس سهلاً لأن ما يحدث في عالم اليوم هو فرز فريد للعلاقات الدولية لا ينطلق من الكتب التقليدية.

تعريف العلاقة الصينية - الروسية اليوم ليس ذاته قبيل الحرب الأوكرانية، مثلاً، كذلك الأمر في ما يتعلق بالعلاقة الروسية - الإيرانية.

 

الواضح أن العلاقات الأميركية - العربية تطوّرت في ضوء انكماش الولايات المتحدة عن الدول الخليجية العربية ومصر وغيرها، والذي بدأ في عهد أوباما، رافقه الانفتاح الأميركي على إيران الذي قارب الوقوع في غرامها. منذ ذلك الحين والدول العربية الخليجية بالذات، تصوغ استقلاليتها عن العلاقة التقليدية مع الولايات المتحدة، وهي بدورها تبنّت الانكماش قليلاً في العلاقة الأميركية والانفتاح كثيراً في علاقاتها مع الشرق وفي الطليعة الصين وروسيا.

 

ينطلق البعض في الغرب من مفهوم غربي حصراً عند تحليل المواقف الخليجية العربية من روسيا وغزوها أوكرانيا، مطالباً بأبيض أو أسود في هذه المواقف، ومديناً تلك الرمادية التي رافقت مواقف عدد من الدول العربية وتشابهها مع مواقف الهند نحو الأزمة الروسية - الغربية.

 

عندما يحاضر الغرب في أخلاقية المواقف من روسيا ومغامرة رئيسها فلاديمير بوتين الأوكرانية، لديه الكثير من المقومّات والحجج لأن يعتبر أن ما فعله بوتين يجب أن يكون مرفوضاً أخلاقياً وسياسياً واستراتيجياً، حتى وإن كان وقع أو أوقع نفسه في فخّ نصبه له حلف الناتو في أوكرانيا. غزو دولة مجاورة للاستيلاء على أراض فيها يجب أن يلاقي ردود الفعل العالمية الرافضة للقبول بفرض أمر واقع كهذا، والمتأهبة لفرض عقوبات لا سابقة لها كي لا تجرؤ دولة أخرى، صغيرة أو كبرى، على خوض مغامرة مماثلة.

 

لكن الغرب ليس بريئاً من استفزازه روسيا، بغضّ النظر عن حجة حرية الشعب الأوكراني في اختيار ما إذا كان سينتمي إلى حلف الناتو العسكري. تطويق روسيا عبر توسيع عضوية أوروبا الشرقية في حلف الناتو الغربي ليس هامشياً ولا بريئاً. والسؤال هو: لماذا قرّر الغرب تقليص روسيا؟ وهل للتصوّر الاستراتيجي الغربي لروسيا علاقة بأولوياته الاستراتيجية الصينية؟

 

بكلام آخر، هل قرار تدمير روسيا في إطار المعادلة الغربية - الصينية منطقي باعتباره إضعافاً للأوراق الصينية؟ أم أن الحكمة الاستراتيجية كانت تكمن في استقطاب روسيا إلى المعسكر الغربي، أو أقلّه تحييدها في المواجهة الأميركية - الصينية أو الغربية - الصينية، بدلاً من تدميرها؟

 

القيادات الغربية تدرك تماماً أن فلاديمير بوتين لن يتراجع في حرب أوكرانيا، وهي تتعمّد عدم مساعدته في التسلّق هبوطاً لأنها تراهن على، أو تتمنى، أن تقضي المغامرة الأوكرانية على "البوتينية" وعلى طموحات المؤسسة العسكرية الروسية. لذلك يصعّد الرئيس الأميركي جو بايدن عبر وصف فلاديمير بوتين بأنه "مجرم" و"سفاح"، وبكلامه عن تغيير النظام في روسيا الذي أتى ارتجالياً، وفرض على فريقه التراجع عنه لأن الدول الكبرى تعهّدت في ما بينها بأنها لن تتحدّث عن تغيير النظام لا في أميركا ولا في روسيا.

 

لذلك، يرفض الرئيس بايدن فكرة التواصل مع الرئيس بوتين لإنهاء الحرب الأوكرانية، فهو يعتبر تورّط بوتين فيها قطاره السريع إلى الزوال. لكن ماذا عن روسيا نفسها وليس فقط "البوتينية"؟

 

هنا تبرز الضبابية في الغايات الغربية الاستراتيجية، علماً أن العقوبات التي تُفرض على روسيا مدمِّرة لروسيا وليس فقط لفلاديمير بوتين ومؤسسته العسكرية. هنا تبدو الأخلاقية الغربية إمبراطوراً عارياً، فالمسألة مسألة مصالح وليست مسألة قِيَم، كما يدّعي الغرب. تلك البوصلة الاستراتيجية للعلاقة عبر - الأطلسية التي تشكّل أولوية للقيادات الأميركية والأوروبية هي التي توقّفت إبرتها على تقليص روسيا عبر بوابة المغامرة البوتينية الفاشلة في أوكرانيا.

 

مواقف الدول الأخرى من البوصلة الاستراتيجية الغربية لا علاقة لها بالمحاضرات الأخلاقية التي تصدر عن بعض الأوساط الأميركية والأوروبية لدى حديثها عن المواقف العربية من روسيا. إنها بدورها لغة المصالح لدول اختارت تنويع علاقاتها الاستراتيجية شرقاً منذ الانعطافة الغربية، بعدما اعتمدت الولايات المتحدة والدول الأوروبية سياسة الانبطاح الاستراتيجي أمام الجمهورية الإسلامية الإيرانية والاستهتار الاستراتيجي بعلاقات التحالف مع الدول الخليجية العربية. فاقتضى التوضيح للكف عن الإملاء الأخلاقي.

 

وبصراحة، ليست هناك أي مرجعيّة أخلاقية أو قيم حضارية في قرار الغرب التضحية التامة بسيادة دول عربية تقع تحت هيمنة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وذراعها الحاكمة، الحرس الثوري، الذي يضرب استقرار دول مثل لبنان والعراق واليمن وسوريا بأدوات الميليشيات التابعة له التي تأخذ أوامرها منه على حساب سيادة الدول التي هي فيها. ذريعة الغرب أن الأولوية هي لمنع إيران من استكمال سعيها إلى امتلاك القنبلة النووية، لكن هي ذريعة تفتقد أدنى الأخلاقية لأن الغرب شرّع لطهران سلوكاً إقليمياً عدوانياً، عندما انبطح أمام إصرار إيران على الفصل التام بين سلوكها الإقليمي وبين مسارها النووي. فتلاقى الابتزاز مع الانبطاح مع اللاأخلاقية في المواقف الغربية نحو السيادة العربية وحرية الشعوب العربية في الاختيار.

 

حدث ذلك عند إبرام الاتفاقية النووية في عهد باراك أوباما، وهو يحدث اليوم مجدّداً في عهد جو بايدن بمساهمة أوروبية جذرية مؤذية لا قيم فيها ولا أخلاق. الجمهورية الإسلامية الإيرانية واضحة تماماً في تماسك مواقفها بأن الحرس الثوري الإيراني كان وسيبقى دائماً الساعد الأيمن لمرشد الجمهورية، وصانع السياسة الخارجية ومنفّذها إقليمياً ودولياً. واضحة في إصرارها على إلغاء تصنيف الحرس الثوري إرهابياً، ورفع العقوبات عنه لأن استمرار العقوبات ضده واستمرار تصنيفه إرهابياً يقيّد أيدي كامل الجمهورية الإسلامية. الغموض أميركي وأوروبي، وهو محاولة بائسة للاختباء وراء الإصبع، فيما يشرِّع الغرب ويموّل مشاريع الحرس الثوري التوسعية والعدائية. فرجاءً، كفى محاضرات في القيم وادعاءات في الأخلاق.

 

في غضون أسبوعين سيتم توقيع صفقة إحياء الاتفاقية النووية التي تمخضت عنها مفاوضات فيينا، هذا ما تفيد به الأجواء وما تشير إليه المعلومات. "الحلول الوسطى" التي يتوسّل الغرب من إيران الموافقة عليها هي في صلبها في مصلحة الجمهورية الإسلامية. فإدارة بايدن والحكومات الأوروبية عقدت العزم على توقيع الصفقة بأي ثمن كان، لأن التوقيت الآن موات جداً لاعتبارات نفطية واستراتيجية. فالنفط الإيراني ضرورة أوروبية، وفصل طهران عن موسكو ولو موقتاً ومرحلياً يصبّ في المصلحة الاستراتيجية الغربية.

 

المهمّة الأكبر التي توليها أهمية القيادات الغربية هي مصير "البوتينية" في ضوء التطورات الأوكرانية ومصير روسيا. المهمّة الأولى هي لحجب الانتصار العسكري عن روسيا وعن فلاديمير بوتين في أوكرانيا مهما كان الثمن، فالفوز ممنوع. بل إن تورّط روسيا أكثر وأعمق في حرب أوكرانيا الطويلة مفيد جداً في عملية إضعاف روسيا وإنهاكها، عسكرياً واقتصادياً ونفوذاً ومكانةً دولية، كما يرى الغرب، ويتعمّد. وهذا بدوره سيدمّر بوتين والبوتينية، بحسب حسابات الغرب الاستراتيجية.

 

القيادات الغربية ما زالت تراهن على حسابات بوتين الخاطئة وتضليلات مؤسسته العسكرية له. مشكلة فلاديمير بوتين تكمن في اقتناعه بأن تراجعه في أوكرانيا سيدمّر سيرته التاريخية legacy في روسيا. قد يدرك أن رجاله في روسيا وأوكرانيا ضلّلوه وجرّوه إلى الحسابات الخاطئة، لكن فلاديمير بوتين ليس الرجل الذي يستخدم التضليل ذخيرة للخروج من الورطة، بل إنه رجل يمتلك الخطأ والورطة. فقط الانتصار العسكري سيخرج بوتين وروسيا من الورطة، بحسب تفكيره. ولذلك هو عازم وواثق ومصرّ على الفوز والانتصار العسكري، بأي ثمن.

 

أحد المخضرمين الروس لخّص الوضع العسكري كالتالي: عام 1980، أسفرت السنة الأولى للحرب السوفياتية في أفغانستان عن مقتل 1584 جندياً سوفياتياً. عام 2022، أسفر الشهر الأول للحرب الروسية في أوكرانيا عن مقتل أكثر من 1500 روسي. هذه أرقام تقلق الروس، وهناك انقسامات جديّة داخل روسيا حول جدوى الحرب الأوكرانية.

 

موازين الانتصار والهزيمة في هذه الحرب لن تكون تقليدية، وهنا الخطورة. لعلّ الوسيلة الوحيدة لتجنّب الانزلاق إلى الأسوأ في هذا المنعطف تكمن في لقاء وجهاً لوجه بين الرئيسين الروسي والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إذا سمحت به القيادات الغربية