ما زلنا في موضوع قمّة النقب: مَنْ يذكر معادلة «الأرض مقابل السلام»، التي كانت عنواناً لشيء اسمه «عملية السلام»؟ لم تعد هذه وتلك قيد التداول على نطاق واسع في الآونة الأخيرة، ولكن في «قمّة النقب»، التي عالجنا جانباً منها في أسبوع مضى، ما يستدعي العودة إلى «المعادلة» و»العملية». فكلتاهما، إن صحّت قراءتي، تكتسب حياة ودلالة جديدتين. بيد أن هذا كله لن يكون مفهوماً دون توضيح.
ألمحنا في مناسبات سبقت إلى صعود إسرائيل ودورها كقوّة إقليمية، وإلى فرضية لجوء «العرب» إليها (التحالف معها، أو لقاء المصالح، أو عدو عدوي صديقي، أو كيف تغيّر العالم وتغيّرت المفاهيم. كلها تلفيقات لغوية جوهرها الخضوع وطلب الحماية). ويبقى أن هذا يحدث كدليل على نجاح إسرائيل في فصل المسألة الفلسطينية عن علاقاتها مع «العرب»، وفي كسب المزيد من الأنصار بينهم لفكرة أن المسألة الفلسطينية ليست قضيتهم المركزية، ولا هي مفتاح الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.
كان كل ما تقدّم من ثوابت السياسة، وأبقارها المقدّسة، في العالم العربي، على مدار عقود طويلة. العقود نفسها التي أنفقتها الدعاية الإسرائيلية في حملات متلاحقة للتدليل على بطلان الثوابت المعنية، وكونها مجرد مرافعات مفتعلة في الترسانة الأيديولوجية للطغاة العرب، يستخدمونها لتبرير افتقارهم إلى الشرعية، وتأبيد سلطاتهم الاستثنائية، وإلهاء شعوبهم بصراعات خارجية. لذا، سينتهي الصراع العربي ـ الإسرائيلي، حسب هذا المنطق، في حال تعميم ونشوء أنظمة وثقافات ديمقراطية في العالم العربي.
وإذا كانت الأمور بخواتيمها، يبدو أن الإسرائيليين قد نجحوا فعلاً في عملية الفصل هذه. هناك مَنْ يتكلّم، خاصة بين الفلسطينيين، عن إسقاط صفقة القرن، وفشل «سلام إبراهيم»، ولكن مرافعاتهم تصدر عن تفكير رغبي أكثر من كونها قراءة موضوعية لواقع لا يحتمل كل هذا النوع من الرهانات. وينبغي، في هذا الصدد، التمييز بين المراكز الحضرية والحضارية للعالم العربي والهوامش الصحراوية، فالرهان على الأولى، دون انتظار نتائج سريعة، صحيح، ويمكن التدليل عليه بالجغرافيا السياسية، وشواهد التاريخ البعيدة والقريبة، أما الرهان على الثانية فوهم لا تعززه الجغرافيا السياسية، ولا تسنده شواهد التاريخ.
ومع ذلك، لا تنجو عملية الفصل الإسرائيلية الناجحة من مفارقات لاذعة، فالعملية لم تنجح لأن «العرب» صاروا «ديمقراطيين»، بل لأن إسرائيل صارت مرشحة، فعلاً، لحماية أنظمة سلطانية وعثمانية ومملوكية قديمة ومستحدثة، في مركز العالم العربي وهامشه، من مخاطر الديمقراطية، التي كثيراً ما عابت عليهم غيابها.
وإذا سلّمنا بصحة هذه القراءة فإن الخطوة المنطقية التالية هي التساؤل بشأن المعاني السياسية لعملية الفصل، ودلالتها العملية على الأرض. ما معنى الفصل بين علاقات إسرائيل مع «العرب» وعلاقتها مع الفلسطينيين؟ يتمثل أقرب المعاني، بقدر ما أرى، في تحويل العلاقة مع الفلسطينيين إلى شأن من شؤونها الداخلية، وفي نطاق صلاحياتها كدولة ذات سيادة.
وإذا قرأنا هذا كله على قاعدة ومعادلة «الأرض مقابل السلام»، نجد انزياحاً كاملاً في المعنى.
فالمعادلة في صيغتها الأصلية، وأسعار صرفها التقليدية في سوق السياسات والخطابات الإقليمية والدولية، تنطوي على دلالة المقايضة: إسرائيل تُعيد «الأرض»، وتحصل من «العرب» على «السلام». لذا، في مجرّد «الاعتراف» أو «التسليم» أو «القبول» بالعلاقة مع الفلسطينيين كجزء من شؤون إسرائيل الداخلية، وما يدخل في نطاق سيادتها كدولة، ما يعني إسرائيل تعطي «العرب» «السلام»، أي تحمي أنظمة شركائها، وهم «يعطونها» «الأرض» بطريقة رسمية ورمزية في آن. وفي هذا ما ينطوي على دلالة الحسم السياسي لنتائج حربها في العام 1967.
في العام 67 حسمت إسرائيل نتائج حرب 48، وفي «قمة النقب» 2022 حسمت نتائج حرب 67 بعد 55 عاماً جرت خلالها محاولات مختلفة للحسم من كامب ديفيد، إلى اجتياح بيروت، إلى حرب الانتفاضة، إلى أوسلو.
وبهذا المعنى، يتنازل «العرب» عن مطلب «الأرض»، فتحصل إسرائيل على الأرض مقابل حصول الطرف «العربي» في صفقة المقايضة على «سلام» يضمن للأنظمة وحكامها البقاء (يعني الأرض مقابل النظام)، مع وجود قائمة جاهزة من الذرائع، وبصرف النظر عن جديتها، سواء الخطر الإيراني، أو الإرهاب، أو الأوهام الإمبراطورية العثمانية، وربما المخاطر الصينية، أو الهندية، في وقت لاحق.
وفي المعنى نفسه، ربما حان الوقت للتفكير في الثورة المضادة، والحروب الأهلية، وانهيار الحواضر، والدول الفاشلة، والقمع الدموي، والعنف غير المسبوق كتجليات محتملة «لعملية السلام» الجديدة التي تمثل إطاراً موضوعياً، وبنية تحتية مادية وسياسية ورمزية لمعادلة «الأرض مقابل السلام» بعد ما طرأ عليها من تعديل وانزياح في المعنى.
تتمثل مخاطر هذا التحوّل في الفرق الجوهري بين عمليتي الحسم. فبعد العام 67 صارت الأرض المحتلة حديثاً هي «القضية» بينما خرجت قضايا الاحتلال العام 48 من التداول.
أما في عملية الحسم الجديدة، التي ينطوي مفهوم «الأرض» فيها على القدس والضفة الغربية، فتضع علامة استفهام كبيرة على السكّان الفلسطينيين أنفسهم. لم تكن هذه المعضلة قائمة، ولم تشكّل عقبة، في عملية الحسم الأولى لأسباب تتعلّق بالعدد والجغرافيا والخصوصيات على الأرض، وفي الإقليم والعالم في حينها. ولنقل إن ثمة علامات تقرع فرادى ومجتمعة أكثر من ناقوس للخطر:
أعداد الفلسطينيين، وميل الميزان الديمغرافي لصالحهم في فلسطين الانتدابية، والغطاء «العربي» المُحتمل لسياسات إسرائيل بشأنهم، وصعود الفاشية والشعبويات في العالم، إضافة إلى محاولة لاستدراك ما اعتُبر «خطأ» في حرب 48 (أي عدم استكمال عملية الطرد الجماعي للسكّان في المثلث والجليل). ولنقل: في «عملية السلام الجديدة»، ومعادلة «السلام مقابل النظام» بعد انزياح المعنى، ما يهدد سلامة الفلسطينيين لا بالمعنى السياسي وحسب، بل والفيزيائي، أيضاً.