أثار المسلسل المغربي "المكتوب" اهتمام جمهور عريض منذ عرض حلقته الأولى في أول يوم رمضان، بسبب تطرقه لمهنة "الشيخة"، وهو الاسم الذي يُطلق على المغنية والراقصة الشعبية في المغرب. وتمكن العمل الذي أداره المخرج الشاب علاء أكعبون، من حصد نسب مشاهدة عالية، مكنته من تصدر التراند المغربي على منصة "يوتيوب".
وتداول رواد مواقع التواصل لقطة من المسلسل تظهر دفاع "الشيخة"، التي تجسدها الممثلة دنيا بوتازوت، عن نفسها بطريقة عفوية، بعد تعرضها للتحرش من طرف أحد زبائن الملهى الليلي أثناء تأدية عملها.
النقاش والتعليقات انصبت حول مهنة "الشيخة" بمفهومها التقليدي، ونظرة المجتمع إليها، بين من يرى فيها صانعة للفرجة تحمل رسالة فنية، وامرأة تقوم بمهنة منبوذة، غالبا ما يتم خلطها مع البغاء.
تجدر الإشارة إلى أن مسلسل "المكتوب" يعرف مشاركة عدد من الأسماء المهمة في المجال الفني في المغرب، مثل أمين الناجي وسناء زعيمي ورفيق بوبكر، إلى جانب مجموعة من الشباب الذين بدؤوا يشقون طريقهم في المجال الفني، مثل هند بنجبارة وسلوى زهران.
محبوبة ليلاً، منبوذة نهاراً
الناقد المغربي والباحث في المسرح والأدب الشعبي، حسن بحراوي، قال إن "الشيخة كانت ولا تزال حاضرة بقوة في المجتمع المغربي، إذ يلجأ لها الجميع لتنشيط الحفلات والأعراس، وتحظى بمكانة مهمة في المناسبات العائلية والوطنية وغيرها، لكن المجتمع يدير ظهره لها بسرعة بعض انقضاء حاجته منها".
كما أن مفهوم "الشيخة" واكب التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي عرفه المغرب، حيث كانت الشيخة خلال الحماية تغني فن العيطة كتعبير عن صوت القبيلة الثائرة في وجه الاستعمار، ثم تحولت بعد الاستقلال وعودة السلطان محمد الخامس من المنفى إلى تعبير عن الفرح دام لسنوات بعد خروج المستعمر.
وفسر الكاتب النظرة المتناقضة للشيخة في المجتمع المغربي قائلا: "إن مهنة الشيخة بمعناها القديم، وقعت ضحية تشويه من الاستعمار الفرنسي الذي حاول ما أمكن أن يفرغها من حمولتها الثقافية والفنية".
واعتبر صاحب كتاب "فن العيطة في المغرب"، أن الاستعمار الفرنسي تعمّد نقل الشيخات إلى المواخير والأحياء المظلمة في المدن، لا سيما في الدار البيضاء، من أجل خلطها بالباغيات، اللواتي كنّ "يرفّهن" على الجنود، في محاولة لتدنيس فن العيطة الذي تؤديه الشيخات بكلمات نابية لينفر منه الناس ويبتعدوا عنه.
وكنتيجة لذلك، يرى الباحث، أُخليت العيطة من أغراضها السياسية والاجتماعية وطغت عليها تعابير مبتذلة، بعد أن كانت حافلة بأشعار راقية تروي البطولات وتصدح بالمدح والغزل الرفيعين.
وأورد الخبير أن الباحثة الأنثربولوجية الأميركية، ديبورا كابشن، نبهت في دراستها المرجعية "النوع الاجتماعي والسوق: المرأة المغربية راوية التراث"، إلى موقع "الشيخة" الفريد كحاملة لوظيفة اجتماعية في المجتمع المغربي، لا محيد عنها في حفلات الزفاف والعقيقة والولائم المقامة بمناسبات وطنية، إلى جانب المواسم الدينية التي يسمح فيها للشيخة بالرقص للترفيه على الزوار ولكن لا يسمح لها بالدخول لزيارة الأولياء الصالحين.. ومع ذلك تبقى شخصا غير مرحب بها كجارة أو قريبة أو زائرة، ولا مكان لها وسط مجالس النساء اللواتي يخشين من أن يلحقهن شيء من "الدنس" أو "العار"، بسبب سمعة الشيخة المقترنة أحيانا ببعض المهن الليلية.
وأشار الباحث المغربي، في هذا الصدد، إلى ما تعانيه الشيخة من عزلة أليمة في أواخر أيامها، إذ يقل زوارها ومعيلوها وتصبح "عالة" منبوذة ينفر منها المجتمع.
تحريف ممنهج
من جانبه، يدافع الدكتور حسن نجمي عن دور الشيخة في الحفاظ على التراث الفني، لا سيما فن العيطة الذي تكاد تُختزل فيه، وكتب ضمن أطروحته حول "غناء العيطة": "تعريف الشيخات بمحددات غير فنية انحراف منهجي واضح، لأنه يخرج بالتعريف عن الممارسة الفنية والجمالية إلى المحدد الأخلاقي، وهو حكم قيمة وليس مرتكزا من مرتكزات التحديد والتعريف. كما أنه يجمع جميع الشيخات تحت طائلة نفس الحكم المجحف دون اعتبار لسيرورة الزمن (كيف كانت الشيخات في الماضي وكيف أصبحن!) أو لأوضاعهن الاجتماعية المتعددة والمتنوعة والمتمايزة، أو لأجيالهن، أو لأنواع الأداء، أو للحالات الفردية.."
ويعزو حسن نجمي، شاعر ومؤلف وباحث في فن العيطة، الانحراف الذي وقع في بعض الأذهان بخصوص مهنة الشيخة، من حاملة لرسالة فنية واجتماعية إلى "بائعة هوى"، إلى بداية انتظامهن في نظام الأجر ابتداء من القرن التاسع عشر.
وكتب ضمن أطروحته: "قبل هذه الفترة لم يكن شائعا أن تتلقى الشيخة أو الشيخ أجرا مقابل ما ينتجنه من أداء فني، فأصبحت تتحول تدريجيا من تعبير تلقائي لا يعرف له أصل في الغالب، إلى مهنة فنية. إذا كان بروز الشيوخ في نطاق نظام الأجر هذا تحولا طبيعيا في مجتمع ذكوري، فإنه لم يكن كذلك بالنسبة للشيخات. لعل الطريقة التي نظمت بها هذه المهنة، في فترة الحماية، أكبر دليل على ذلك".
وأبرز الباحث أنه "في سياق تنظيم سلطات الحماية للمهن، عمد الباشا التهامي الكلاوي في مراكش إلى جمع الشيخات وممتهنات البغاء في موقع واحد كان هو ماخور عرصة الحوتة. كان لهذه المبادرة دور أساسي في الخلط الذي حصل بين الشيخات وممتهنات البغاء".
ومن هنا اقترن اسم الشيخة بالبغاء، وتحولت نظرة المجتمع إليها من فنانة تلقي الدفء على السهرات بشعرها ورقصها إلى امرأة تبيع جسدها للحصول على لقمة العيش.
الشيخة والمقاومة
إلى جانب الفن، اقترن اسم بعض الشيخات بالمقاومة، وتواتر المؤرخون دور هؤلاء الفنانات في الدفاع عن الوطن وصد عدوان المستعمر، بكلمات وأغانٍ ورقصات حماسية.
من بين أبرز "الشيخات" في الوسط الفني المغربي، يذكر الباحثون، الفنانة خربوشة في مواجهة القايد عيسى بن عمر، إلى جانب حركات فنية ظهرت في واد زم وخريبكة إبان الحماية والتي تشجع الفدائيين والمقاومين على التمرد ضد المستعمر.
في السياق ذاته، يورد باحثون مثال الحاجة الحمداوية التي رحلت في أبريل 2021، عن سن ناهز 91 سنة. وعاشت الحمداوية أيقونةُ فن العيطة (المعاصر) حياة الفقر والترف، وتقلبت في ظلام المخافر والسجون، وغنت أمام الملوك والأميرات، وكان صوتها الشجي وآلة البندير سلاحها للمقاومة ومجابهة المستعمر.
وبحسب مهتمين، فإن الحاجة الحمداوية تعرضت للتحقيق من طرف الجيش الفرنسي، إبان مرحلة الاستعمار، وذلك بشأن كلمات أغانيها، والرسائل التي تبعثها من خلالها، كما زج بها في السجن بسبب كلمات أغنية، اعتُبرت أنها تذم ابن عرفة، الذي نصبته السلطات الفرنسية سلطانا بعد نفي الملك الشرعي محمد الخامس.
في هذا الصدد، قال أحمد عيدون، الكاتب والباحث في الموسيقى: "في غشت 1953، بعد نفي السلطان محمد الخامس وقيام ثورة الملك والشعب، تم القبض على الحاجة الحمداوية لأنها غنت "أوايلي الشيباني" تنتقد فيه صنيعة الاستعمار، السلطان المزور محمد بنعرفة، الذي حاول الاستعمار تنصيبه كبديل للسلطان الشرعي محمد الخامس الذي تم نفيه إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر".
وأضاف الأستاذ عيدون في تصريح ل"سكاي نيوز عربية": "لقد حاولت الحمداوية من خلال هذه الأغنية، تذكير الناس بواقعة محاولة اغتيال بنعرفة من طرف المقاومين. فبعد خروجه تلقى موكبُ السلطان المزوَّر قنبلة انفجرت بالقرب منه، لكنها لم تصبه إلا بجروح طفيفة وتلطخت ثيابه بالدم فصار مثل يقطين تناثرت حباته، ويقول مقطع الأغنية الخاص بهذه الصورة "وجه الگرعة مات بالخلعة".
المصدر: سكاي نيوز عربية