كانت النّيّة الاستمرار في معالجة «قمة النقب». ومع ذلك، لا يحق لنا تجاهل أحداث الأسابيع القليلة الماضية. يصعب، في هذه اللحظة، رسم سيناريوهات محددة للمجابهة الحالية مع الاحتلال، أو الجزم بديمومتها. ولا أعتقد أن اللحظة تسمح بمديح شجاعة الشعب واستعداده الدائم للتضحية، فما هو أجدى من هذا وذاك، على أهميته، يتمثل في كيفية وضع الشجاعة والتضحيات على طريق الانتصار، أو على الأقل حمايتها من مجازفات تُبددها. وما أكثرها في حرب لم تتوقف منذ مائة عام، إذا بدأنا العد من وعد بلفور.
قلنا إن تجاهل المجابهة الحالية غير ممكن، ولكن «قمة النقب» تبدو مدخلاً مناسباً، أيضاً. فالمجابهة الحالية تجري في ظل أوضاع داخلية، وإقليمية، ودولية غاية في الرداءة والسوء. لا ضرورة للكلام عن الوضعين الداخلي، والدولي، ولكن القمة المذكورة من علامات انهيار الجدار الحامي للمسألة الفلسطينية، وتمكين إسرائيل من مكان ومكانة «المعلّم» الجديد في العالم العربي، مع استثناءات قليلة. وبهذا المعنى، يبدو توقيت المجابهة سيئاً وإشكالياً، في الإقليم، وأكثر سواءً وإشكالية في عالم استولت عليه مشاهد ومخاوف الحرب في أوكرانيا.
لهذا السبب، ولأسباب مختلفة يمكن الكلام عنها في حينها، ثمة ما يبرر التحذير من تكرار أخطاء الانتفاضة الثانية، التي انتهت بهزيمة عسكرية وسياسية، ناهيك عن فواتير أخلاقية وسياسية كثيرة مستحقة ومؤجلة لم نتمكن من تسديدها كاملة بعد. كانت العمليات الانتحارية من أبرز تلك الأخطاء، ومن سوء الحظ أن حرب الانتفاضة الثانية تصادفت مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي غيّرت العالم، وألحقت بالغ الضرر بفلسطين، شعباً وقضية.
والمُلاحظ، وطالما وصلنا في التشخيص إلى هذا الحد، أن المصادر الإسرائيلية ألصقت تهمة الانتماء إلى داعش، أو التماهي معها، باثنين على الأقل من منفذي هجمات مسلّحة على مدنيين إسرائيليين. لا نعرف، بالتأكيد، مدى صدق تلك المصادر. ولكن من الحماقة، وعمى البصر والبصيرة، تجاهل هذا الأمر، الذي ينبغي أن يقرع أكثر من مليار جرس للإنذار.
وسواء صدق الإسرائيليون أم كذبوا، فإن في تشديدهم على انتساب بعض منفذي الهجمات إلى السلالة الداعشية ما يشير إلى اتجاه الريح والبوصلة الدعائية والسياسية. وإذا نجحوا، بطرق يصعب تفصيلها الآن، ولديهم خبرات ومهارات فائقة، إضافة إلى علاقات ممتازة مع ممولين تقليديين لإرهاب وأيديولوجيا الدواعش، في تعميم وتعويم السلالة الداعشية في بلادنا، فإن هذه هي الضربة القاضية ووسيلتهم في تدمير الفلسطينيين ما بين النهر البحر، في ظل أجواء عربية ودولية مواتية جداً، وربما مُشجّعة.
لذا، فلنحتفظ في الذهن بحقيقة أن خطر الدواعش لا يقل عن خطر الاحتلال، وأن محاولة الاستثمار في المشاعر الدينية تصب الماء في طاحونة هؤلاء، وبالقدر نفسه، فإن استهداف المدنيين يصب الماء في طاحونة الاحتلال. وبقدر ما تبدو المقاومة غير المسلّحة عبثية، أحياناً، ولا تُشفي الغليل، إلا أنها الطريق الوحيد لعبور هذا المضيق الصعب، في هذا الوقت العصيب بالذات.
لا أعتقد أن لدى العاملين في الحقل السياسي، وفي بيئة الفصائل على نحو خاص، ما يكفي من الشجاعة، ووضوح الرؤية، لرسم والالتزام بهذا النوع من الخطوط الحمر، وتكريسها، والدفاع عنها. فالشعبوية، ناهيك عن الدفاع عن المصالح الضيقة، الشخصية أحياناً، والفصائلية في كل الأحوال، تحول دون أمر كهذا. لذا، فهذه مهمة العاملين في الحقل الثقافي، في المقام الأوّل.
وتبقى مسألة خطيرة فعلاً، وتكاد لا تحظى باهتمام أحد. فقطر تقوم بدور الوسيط بين إسرائيل وحماس. وقد نقلت في الأيام الماضية رسائل متبادلة بين الجانبين عن طريق وزير الخارجية القطري، الذي نقل لحماس رسالة تقول إن الإسرائيليين غير معنيين بالتصعيد على الحدود مع غزة، ونقل للإسرائيليين رسالة مفادها إن حماس غير معنية بالتصعيد ولكنها «لا تستطيع السكوت على ما يحدث في الأقصى». يعني تحتاج «رشوة» معنوية.
هذه لعبة شطرنج معقّدة، إسرائيل لا تريد القضاء على حماس، وتعتقد أنها مفيدة في الانقسام السياسي والجغرافي والأيديولوجي الذي يأكل من اللحم الحي للمسألة الفلسطينية. ومنذ سيطرت حماس على غزة، أرادت أن يصير لديها ما تخشى عليه، وهذا الواقع يتكرّس يوماً بعد يوم، ويفرز وقائع جديدة، بالتعاون مع قطر، التي «تموّل» حماس بموافقة إسرائيلية. وإذا كان ثمة من ترجمة لسؤال ماوتسي تونغ: «كيف تصنع شيئاً جيّداً من الشيء الرديء»، فإنها تتجلى (بلا شفقة على مليونين من بني البشر في سجن مفتوح) في موقف إسرائيل من حماس.
الخلاصة: تجريد قيادتي السلطة والمنظمة (بصرف النظر عن مدى فعالية هذه وتلك) من كل جدوى أو جدارة محتملة، وتحويل حماس إلى مرجعية سياسية للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، أيضاً. وبما أن حماس لا تحظى بشرعية إقليمية ودولية، ومحسوبة على الإسلام السياسي ومحور إيران (وكلاهما مُطارد ومكروه) يسقط الفلسطينيون في ثقب أسود.
فلن يجد أحد من اللاعبين الإقليميين والدوليين (والعرب إن وجدوا) فائدة من التعامل مع قيادة «شرعية» بالمعنى التقني للكلمة، ولكنها لا «تمون» على شيء، ولن يجد الفائدة أيضاً في التعامل مع قيادة غير شرعية ولكنها «تمون» في قضايا التعبئة والرأي العام. وفي حال جرت انتخابات رئاسية وتشريعية في وقت ما، يصير «الحماة» الجدد ممثلين شرعيين، تقنياً، ولكن بلا شرعية يُعتد بها في الإقليم والعالم.
وهذه، على أي حال، مجرّد ملاحظات، لعلها تُسهم في إغناء السجال العام.