أثار الفيديو الذي تم تسريبه لاحتفال عرس لمتطرفين يهود زوبعة كبيرة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، لأن هذا الفيديو ليس فقط يعرض أغاني تدعو للانتقام وهي قصة شمشون الجبار المعروفة في التراث اليهودي، بل كذلك لأنه تضمن قيام بعض الشبان الراقصين ببنادق جيش الاحتلال بطعن صورة الطفل علي دوابشة آخر الناجين من العائلة التي حرقها المستوطنون في قرية دوما. فهذا المشهد أحرج إسرائيل كثيراً داخلياً وخارجياً وهي التي تتحدث عن نفسها باعتبارها دولة ديمقراطية ودولة قانون ونظام. الفيديو كشف مرة أخرى عورة العنصرية الطاغية والتطرف الشديد الذي يعصف بإسرائيل، والنقاش الدائر حول الموضوع أظهر بشاعة هذه العنصرية بصورة تزيد على مشاهد الرقص على الدم، فبرزت في معرض هذا النقاش تصريحات بعضها لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تميز بين قتل اليهودي لليهودي وقتل اليهودي لغير اليهودي والأخير أقل درجة ويمكن التسامح معه، على الرغم من إدانة العملية الإرهابية في دوما والاعتراف بأنها تمثل إرهاباً يهودياً غير مقبول.
والأخطر فيما يجري في إسرائيل ليس ظهور أصوات عنصرية تجاهر بعدائها لكل ما هو غير يهودي في هذه البلاد، وتعمل على محاربته وممارسة الإرهاب ضده، بل في تحول هذه الأصوات إلى الطرف المهيمن في السياسة الإسرائيلية، وهذا يظهر في مواقف السلطات الإسرائيلية من المجموعات الإرهابية المتطرفة، حيث حتى هذا اليوم تعجز عن محاكمة المجرمين الذين أحرقوا عائلة دوابشة وتبدي عجزاً في اعتقالهم والتعامل معهم مع أنهم معروفون تماماً للأجهزة الأمنية، وذلك بسبب التأييد الذي يحظون به في المؤسسة الرسمية وفي فئة اليمين الحاكم. فلم يعد المستوطنون يمثلون جزءاً هامشياً في النخبة الحاكمة كما كانوا في السابق، وإنما أصبحت هذه النخبة تمثلهم وهم يتحكمون بمصير الدولة. وهذا ما يقلق العقلاء الذين باتوا هم الأقلية التي لا حول لها ولا قوة. لقد أضحى تحول المجتمع الإسرائيلي إلى اليمين والمزيد من التطرف أكثر جذرية وعمقاً مع تبدل أولويات السياسة الإسرائيلية من استيطان يخدم الدولة إلى دولة تخدم الاستيطان، وتحول مواردها لتوسيعه وتطويره حتى لو كان يضع الدولة في عزلة دولية ويهدد مصالحها على مستوى العالم، وكذلك يجعلها تعيش في صراع أبدي، وكما يقولون على حد السيف. ففي قلب الضجة والجدل الداخلي الذي يمس بصورة إسرائيل تعلن الحكومة أنها بصدد بناء 55 ألف وحدة استيطانية جديدة- حسب ما صدر عن حركة «السلام» أمس-، أي أنها تقرر الانصياع لرغبة التيار الصهيوني – الديني الذي بات يملي السياسة العامة للدولة. وهذا أيضاً ينسجم مع سياق تضييق مساحة الديمقراطية الداخلية بعد نجاح وزيرة العدل أييلت شكيد في تمرير قرار في الحكومة للتضييق على منظمات المجتمع المدني بحجة أنها تلقى تمويلاً من جهات أجنبية. والتهمة الجاهزة لمنظمات المجتمع المدني الإسرائيلية أنها تنتمي لليسار وتساهم بفضح سياسة الاحتلال والقمع التي تنتهجها الحكومة، وهذا القرار سيصبح قانوناً بعد إقراره في الكنيست. فإذا كانت وزيرة العدل التي من المفروض أن تمثل عنواناً للعدالة وسيادة القانون هي أحد أبرز عناوين التطرف والعنصرية وهي التي تحلم بإبادة الفلسطينيين، فماذا يمكن أن نرجو من هكذا نظام متطرف إلى أقصى الحدود. التطرف والعنصرية السائدان في إسرائيل لا ينعكسان فقط على الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال، بل له انعكاسات على حياة الإسرائيليين أنفسهم، فهم باتوا يخشون على الديمقراطية النسبية التي جلبها لهم الزعماء الصهاينة الأوائل تمثلاً بالمجتمعات الغربية حتى لو مارسوها بشكل مشوه في إطار قمعهم للشعب الفلسطيني المحتل وتمييزهم ضد الفلسطينيين الذين يحملون هويات إسرائيلية، وحتى هذه باتت في خطر سلطة ديكتاتورية فاشية لا تقبل الاختلاف. وهما بالتأكيد يؤثران على صورة إسرائيل أمام المجتمع الدولي. اليوم تبدو إسرائيل في أسوأ وضع يمر عليها في المجتمعات الأوروبية التي تدعي زوراً أنها تنتمي إليها، حتى ألمانيا التي تقف إلى جانب إسرائيل وتدعمها بصورة مطلقة تعيش حالة من التناقض بين موقف الحكومة الداعم لدولة الاحتلال وبين الرأي العام الذي يقف ضدها ويؤيد مقاطعتها. وهذا ينطبق على المجتمع المدني في كل أوروبا الذي بات متحمساً في دعم حملات المقاطعة، وهو ما فرض على الاتحاد الأوروبي وسم بضائع المستوطنات. وهناك نخب وقطاعات واسعة في إسرائيل تدرك خطورة المآلات التي تأخذهم سياسة حكومتهم إليها، والعزلة الدولية الآخذة في الاتساع والتعمق يوماً بعد يوم، وهو ما يمنح الفلسطينيين إنجازات سياسية متواصلة ومتعاظمة.
ومصير نظام الأبرتهايد العنصري في جنوب إفريقيا سابقاً لا يزال ماثلاً أمام هؤلاء كنموذج لما يمكن أن يحصل مع دولتهم إذا بقيت على سياستها الحالية وبقي احتلالها للمناطق الفلسطينية قائماً. النخب الإسرائيلية العاقلة والمتوازنة من أمثال من يبعثون رسائل إلى برلمانات أوروبا لمطالبتها بالاعتراف بدولة فلسطين بدون قيد أو شرط في حدود العام 1967، هي التي تقاتل معنا لإنهاء الاحتلال وأنسنة المجتمع الإسرائيلي من منطلق الحرص على مستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة، ونحن أحوج ما نكون لتعميق الحوار والتعاون مع هؤلاء، في إطار الحرص على عزل سياسة الاحتلال وفرض الضغوط على إسرائيل، فهذا يمثل مصلحة وطنية فلسطينية.