الفكر ما بين الإنفتاح والإنغلاق والتوازن!

zZrsx.jpg
حجم الخط

بقلم د. عبد الرحيم جاموس

 

 

 الإنفتاح المعرفي الفكري بات سمة رئيسية من سمات العصر على المستوى الكوني، والتفاعل الحضاري الذي يشهده العالم اليوم، لم يشهد له مثيلاً من قبل، أملته جملة من التغييرات الكونية الفكرية والمادية، لم يعد من الممكن لمجموعة بشرية أو لدولة ما أن تعيش في معزل عن بقية دول العالم ودون أن تؤثر أو تتأثر في مختلف التغييرات الحادثة هنا أو هناك.
الفكر الإنساني المعاصر لا شك أنه يمثل محصلة التجارب الإنسانية الفردية والجماعية عبر مختلف العصور، وما مرّ به من تطورات وتفاعلات، قادت إلى الصورة الفكرية والحضارية السائدة في الفكر الإنساني المعاصر على مستوى التوافق والتعارض بين الأفكار في آن واحد.
قد يتفق الباحثون في مجال الفكر الإنساني على تحديد مصادر المعرفة الفكرية الإنسانية السائدة على أربعة مصادر رئيسية لها تتمثل في:
أولا - المصدر الديني وتنسب إليه المعرفة الدينية والمستمدة من الرسالات السماوية وغيرها.
ثانيا - المصدر العلمي وتنسب إلى العلوم على اختلافها، والتي تمثل حصيلة الخلاصات على مستوى نتائج البحوث والتجارب العلمية في مختلف العلوم.
ثالثا - المصدر الفلسفي والذي ينسب إلى الفلسفات المختلفة، والتي تقوم على بناء تصورات ذهنية منطقية تسعى إلى تفسير الواقع، أو تقديم تصور ذهني يسعى العقل لبنائه على أرض الواقع.
رابعا - المعرفة الابداعية أو الفنية. وهي المعرفة التي قد تنسب إلى الفنون والإبداعات الإنسانية المختلفة.
إن تفاعل هذه المصادر المعرفية الأربع وتكاملها أو تعرضها وتنافرها في بعض الأحيان، وانفتاحها أو انغلاقها عن بعضها البعض، قد ترك أثره على مسيرة تشكيل المعرفة الإنسانية على مستوى مختلف شعوب العالم، وعلى مستوى الجماعات القومية، أو على مستوى الفرد الواحد ووعيه بنفسه وبالآخر.
في ظل ثورة الإتصالات والمواصلات التي شهدها العالم خلال القرنين الماضيين والتطورات المعاصرة على مستوى تكنولوجيا المعرفة والمعلومات قد بات الانفتاح المعرفي الإنساني سمة من سمات العصر، والانغلاق المعرفي والتقوقع على الذات قد بات سمة من سمات الماضي المتعارض مع جملة المتغيرات والتفاعلات الإنسانية فكرياً ومادياً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ...الخ، من شتى حقول العلاقات الإنسانية الفردية والقومية والدولية، وقد بات يمثل هذا الانفتاح المعرفي، المبني على تعدد مصادر المعرفة بأشكالها وأنماطها لدى الفرد والمجتمع أساس البناء الفكري والثقافي للفرد وللمجتمع على السواء، وطبع المجتمع الواحد والمجتمعات المختلفة بسمة التنوع والتعدد الثقافي الفكري والعلمي والمعرفي.
إذا الإنفتاح المعرفي بات يمثل حالة التوازن الفكري لدى الفرد والمجتمع على السواء، كما أسس إلى معرفة أكثر دقة للذات وللآخر، سواء كانت هذه الذات فرداً أو جماعة، وسواء كان هذا الآخر أيضاً فرداً أو جماعة، وأصبحت تمثل هذه الحالة من التوازن الفكري شرطاً أساسياً للتطور والتقدم الفكري والعلمي والمادي على مستوى الفرد والمجتمع، مما يقود إلى تطور العلاقات الإنسانية والاجتماعية بإتجاه الحد من الصراع الداخلي وتهذيبه بإتجاه إقرار وضع اجتماعي أكثر ميلاً نحو التكامل والعدالة الاجتماعية وترسيخ قواعد الحرية الفكرية على أساس من التنوع والتعدد في إطار الحفاظ على وحدة المجتمع وتطوره وتفاعله مع المجتمعات الأخرى كوحدة اجتماعية واحدة موحدة ومتجانسة.
في مقابل الإنفتاح المعرفي تبرز هنا أو هناك قوى وفئات متضررة مما يحدثه الإنفتاح على مستوى الفكر وعلى مستوى البنى الاجتماعية وعلاقاتها الداخلية والخارجية، فتقف موقفاً معارضاً أو معاديا تجاه أي من التحولات والتغيرات المجتمعية السياسية والاقتصادية والسلطوية وحتى العلمية والإبداعية منها، مما ينتج لديها حالة من الجمود والانغلاق الفكري تتغذى بمصدر أو نمط فكري واحد من أنماط المعرفة الفكرية سواء كانت فلسفية أو دينية، وتتمترس خلفها أو تحت ستارها هذه القوى أو الفئات لتبرر استمرار مصالحها، التي أسقطها ويسقطها الإنفتاح الفكري والمعرفي وآلياته المستحدثة والقائمة على اساس التفاعل الفكري والمعرفي من مصادره الأربعة، وتفاعله الإنساني على مستوى الذات والآخر، وهذه القوى تقف عادة في وجه كل تغيير يهدد امتيازاتها القائمة، وتمثل شدٍ عكسي، فيصبح الجمود الثقافي والفكري لديها ميزة تدافع عنها، وتخلق له المبررات لاستمرار أوضاعها والحفاظ على امتيازاتها وسلطاتها الاجتماعية وغيرها، وقد يقود انغلاقها الفكري إلى جمود المجتمع وتخلفه أو إلى تمزق الوحدة الاجتماعية إلى قوى تجاري الإنفتاح المعرفي والفكري وأخرى تعارضه، وبالتالي تهدد وحدة نسيج المجتمع، ما يتيح المجال أمام هذه الحالة لظهور أعراض أمراض فكرية ومجتمعية قد تصل إلى حالة من الغلو والتطرف الفكري الذي يؤدي حتما إلى استخدام العنف في وجه الآخر، وفي هذه الحالة ينفرط العقد الاجتماعي للمجتمع والدولة بين محافظ لا يريد التغيير، وبين منفتح يسعى إلى التغيير والتطوير، وبالتالي لابد من ضبط إيقاع التطوير والتغيير الحتمي للمجتمع على مستوى العلاقات الإنسانية في المجتمع الواحد على أسس من الحوار الإنساني، والقائم على المبدأ الأساسي في الحوار والذي أرساه قوله تعالى: ((أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)) حتى تتم عملية التحول والتغير التي تفرضها سنن الكون بصورة سلسة وسلمية بعيداً عن العنف الداخلي الذي قد يهدد المجتمع أو العنف الخارجي الذي قد يهدد بنشوب الصراعات والحروب بين الدول والجماعات المختلفة.
إن الجماعات الفكرية المنغلقة فكريا، هي ذات فكر معرفي أحادي المصدر والشكل والنمط، ويقود لا محالة إلى انتاج شكل معرفي جامد ومغلق، وبالتالي إلى مجتمع جامد مغلق عاجز عن التقدم والتفاعل مع المجتمعات الأخرى، ولا يستطيع الاستفادة أو الإقتباس من علومها وتجاربها ومن تطورها، وتتشكل لديه نظرة الخوف والريبة من الآخر والخوف على الذات، ويضع نفسه في حالة من حالات المواجهة مع الذات ومع الآخر في آن، مما يؤسس إلى ترسيخ نظرة الكراهية للآخر، كما تؤدي عادة إلى محاولة إعادة إنتاج أنماط معرفية وحياتية ماضوية تتعارض مع سنن التغيير والتطوير التي فطرت عليها البشرية مصداقا لقوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).
الإنفتاح المعرفي يعد ضرورة لمواكبة صيرورة الفطرة الإنسانية، ومواكبة جملة المتغيرات والتطورات والتحولات السريعة التي يشهدها العالم باستمرار، وضرورة لاستيعاب حركة التقدم والتطور في كل الميادين الحياتية على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع والدولة، والذي يمثل سمة العصر.
في ختام هذه المقالة نستنتج أن الجماعات التي تدعي الأصولية قد وضعت نفسها في شرنقة الماضي وأبرز هذه الجماعات الأصولية، هي الصهيونية المسيحية اليهودية التي تبرر لنفسها بإسم الرّب مخالفة سنن الحياة وبناء تصور يقوم على كراهية الآخر أو استعباده وإستبعاده، والنموذج الواضح لها يتمثل في كيان المستعمرة اليهودية في فلسطين المحتلة وما يلقاه من دعم من قبل الصهيونية المسيحية التي تحكم سيطرتها اليوم على إدارة الولايات المتحدة الأمريكية وكثير من الدول الغربية، وتوفر لها الدعم الكامل وتنحاز لرؤاها السياسية والفكرية الفاشية في إنكار وجود الشعب الفلسطيني وإنكار حقوقه الوطنية الثابتة في وطنه فلسطين، وهي بالتالي محكومة بالفشل مهما إستخدمت من عناصر البطش والقوة والإنكار لمنافاتها للواقع من جهة، ولتعارضها مع سنن التطور والتغيير والإنفتاح والحرية والمساواة، والقائم على أساس الإقرار بحقوق الآخرين من جهة أخرى.