من أبرز الأمثلة في الرواية التوراتية، والتي تُظهر بوضوح عملية توظيف التاريخ لخدمة أهداف سياسية، قصة «قلعة متسادا».
وحسب الأساطير اليهودية فإن قلعة متسادا هي آخر حصن يهودي سقط بيد الرومان العام 73 م، وذلك بعد حصار دام سنوات، ما دفع القائد اليهودي إلى إقناع رفاقه المحاصَرين بفكرة الانتحار الجماعي بدلاً من الاستسلام، وبذلك صارت قلعة متسادا رمزاً للقوة العسكرية المحاصَرة التي تفضل الموت على الاستسلام.
ولكن هذه القصة وحسب ما أكد العديد من المؤرخين، مجرد خيال ابتدعته الصهيونية كرمز لوحدة الشعب اليهودي.
واليوم نرى أن الصهيونية تسعى لأن يحتل معتقل «أوشفيتس» النازي نفس مكانة «متسادا»، كمكان ذكرى مشكِّل للهوية اليهودية المعاصرة.
ويؤكد المؤرخ الإسرائيلي «شلومو ساند» أن اليهود في عهد الرومان لم يتعرضوا لأي عملية إجلاء، وأن الرومان لم يلجؤوا إلى اقتلاع قطاعات واسعة من السكان، ما يعني أن نفي اليهود من فلسطين، وتشتيتهم بالقوة، وقصة متسادا لم تكن أحداثاً تاريخية، بل كانت أساطير ابتدعها محررو التوراة؛ نظراً لحاجتهم القومية الماسّة لمنفى قسري، ولأسطورة مأساوية.
وتكمن أهمية ذلك كحاجة لفهم التاريخ اليهودي من زاوية تراجيدية، ولتبرير عدم عودة اليهود إلى «وطنهم المزعوم» خلال القرون التالية.
وفي التاريخ الحديث، هناك قلعة الشقيف في مقابل قلعة المتسادا.
فإذا كانت الأخيرة خيالية، لكنها شكلت ركناً مهماً في الرواية الصهيونية؛ فإن الأولى حقيقية، بل وما زالت حاضرة أمامنا للآن، لكنها لم تأخذ حقها في التأريخ والتوظيف السياسي كقصة حدثت بالفعل، ما زال دم أبطالها ندياً، ولم يجف بعد.
وقد كتب عنها شفيق الغبرا في «حياة غير آمنة»، وفتحي البس في «انثيال الذاكرة»، وواصف عريقات في «الشقيف والصمود الأسطوري»، وغيرهم.
كما طالب مؤرخون آخرون كُثُر بإعادة كتابة التاريخ الفلسطيني كله من منظار تاريخي حقيقي، لأن ذلك سيؤدي إلى تقويض دعامات الرواية التوراتية المتهافتة. ويعني أيضاً إعادة الاعتبار لتاريخ فلسطين القديم والمعاصر.
وتكمن أهمية قصة الشقيف بأنها مرشحة لأن تلعب دوراً موازياً لقصة المتسادا؛ نربي عليها أجيالنا، ونذكّرهم بقصص الفدائيين التي تفيض بمعاني البطولة والتضحية، وتؤكد على عمق روابط الفلسطينيين بأرضهم، ومدى تمسكهم بحقوقهم.
وما يؤهلها لذلك أنها وخلافاً للمتسادا قصة واقعية، جرت فصولها قبل سنوات قليلة، وكل الشواهد تؤكد عليها، بما في ذلك اعترافات قادة الجيش الإسرائيلي.
وقد ظلت الشقيف المكان المفضل للفدائيين على مدى سنوات وجودهم في لبنان، والتي خلالها خاضوا أشرس المعارك، وبين أطلالها دفنوا خيرة الشبان، إلا أن أيام المعركة الأخيرة في حزيران 1982 كانت أياماً استثنائية ليس في تاريخ القلعة وحسب؛ بل وفي تاريخ الصراع العربي الصهيوني.
فكانت مثالاً على شجاعة الفدائي الفلسطيني واللبناني، ونموذجاً للصمود البطولي، ورمزاً للاستبسال الملحمي الحقيقي.
وسأقتبس مقاطع مما كتب ناصر اللحام وعريقات، وما جاء على لسان قادة الجيش الإسرائيلي:
«تقع قلعة الشقيف جغرافياً في لبنان؛ لكنها في التاريخ الفلسطيني وجغرافيا الثورة الفلسطينية موجودة في أعماق كل فلسطيني.. «الشقيف» هي كلمة السر للصمود العربي والفلسطيني في الاجتياح الإسرائيلي للبنان.. هناك قاتل الفدائيون بضراوة حتى النهاية.. كان قتالهم ممزوجاً بالإيمان والاستبسال دفاعاً عن العقيدة والمبدأ.. كانوا جنود فتح الأوفياء، وفي المؤتمر السادس عشر للمجلس الوطني الفلسطيني وقف الجميع تبجيلاً لشهداء الشقيف، وصفقوا طويلاً للقائد ياسر عرفات عندما بدأ يعدد أسماءهم.
انتهت الغارات على القلعة باستشهاد المقاتلين الذين كانوا يدافعون عن الوجود الفلسطيني والكرامة العربية.. استشهدوا تحت القصف العنيف.. لقد استبسلوا ولم يستسلموا.. إلا أنهم قبل استشهادهم تمكنوا من إسقاط طائرتي فانتوم وهليكوبتر.. لقد كانت القلعة نموذجاً مشرفاً لهزيمة جيش الاحتلال في لبنان».
وكتب اللواء عريقات الذي كان على اتصال لاسلكي بمقاتلي الشقيف: «أول من هاجم القلعة الرائد «غوغان» وهو من الوحدة 101 (التي ارتكبت مجزرة قبية)، لكنه فشل بهجومه وأصيب عدد من مجموعته بجروح، ثم قاد الهجوم الثاني الرائد «براق»، وهو من اللواء جولاني، وقد فشل أيضاً كمن سبقوه، ثم توالت الهجمات، واستدعيت الوحدات المظلية وخسر الجيش الإسرائيلي المزيد من جنوده وضباطه، فوضع خطة للتقدم وقصف القلعة بالطائرات والصواريخ. لكن الفدائيين داخل القلعة رفضوا الاستسلام وقرّروا المواجهة. وأخيراً وبعد أن فشل الجيش باحتلالها، استخدم غاز الأعصاب والغازات السامة قبل البدء بالهجوم الكبير والذي شارك فيه أكثر من 1200 جندي. وفي تلك المواجهات صاح أحد الضباط الإسرائيليين عبر جهاز اللاسلكي: «إنها جهنم، أرسلوا الإسعاف فوراً، لقد سقط الكثير من الجنود».
وقد استمر القتال وجهاً لوجه في كل خندق وكل متر في القلعة لمدة 60 ساعة كاملة».
وبعد انتهاء المعركة حضر كل من بيغن وشارون وإيتان وسعد حداد للقلعة، وبينما كانوا مذهولين مما رأوه (كانت الدماء وعبوات الرصاص تغطي الأرض)، قال شارون بانكسار: «في معركة الشقيف فقدنا خيرة ضباطنا وجنودنا» أما الجنرال شاؤول نكديموت، فقال: «13 طائرة قامت بقصف مكثف لهذه القلعة، وكنا نعتقد بأن أطنان القنابل التي ألقيت عليها لم تدمرها فقط، وإنما مسحتها عن وجه الأرض، ولن نجد أثراً لفلسطيني واحد، فاتضح لنا أنها لا تزال على حالها، وأن أحداً من المقاتلين الفلسطينيين فيها لم يصب بأذى».
وأضاف: «هذه الحرب كالمصيدة، وقد وقعنا فيها كفئران صغيرة، في قلعة الشقيف فقدنا خمسة أضعاف ما فقد الفلسطينيون، من نخبة جنود لواء جولاني».
ومن الذين هاجموا القلعة المقدم دوف الذي قال: «كان عددهم 33 فلسطينياً، ومعظمهم من قوات «فتح»، ولم نأسر أياً منهم لأنهم قاتلوا حتى الموت، ولم يستسلم منهم أحد، لقد دُهشنا جميعاً من ضراوة مقاومة هؤلاء الفلسطينيين». وهذا ما دفع برئيس هيئة الأركان رفائيل إيتان لأداء التحية العسكرية للمقاتلين وهم مضرجون بدمائهم.
وفي البرنامج الخاص عن ذكرى المعركة الذي بثه التلفزيون الإسرائيلي قال أحد ضباط الجيش الإسرائيلي وهو يبكي: «حين دخلت القلعة وجدت أحد جنودي ينـزف ويرتجف، فطلب مني شربة ماء، كانت يداه مقطوعتان وتقطران دماً، وكان أحد المقاتلين الفلسطينيين لا يبعد عنه سوى متر زرع تحته قنبلة، نظر إلي وقال قبل أن يموت: أهربوا أهربوا».