إسرائيل وكابوس الزوال

حجم الخط

بقلم: محمد أحمد بنّيس

 

يروي الباحث المصري الراحل، عبد الوهاب المسيري، عن قائد الجيش الفرنسي خلال العدوان الثلاثي على مصر، الجنرال أندريه بوفر، في اجتماع لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في ''الأهرام''، أنه كان في زيارة لإسحاق رابين بعد حرب 1967. وفي أثناء تحليقهما فوق شبه جزيرة سيناء، بادر الجنرال إلى تهنئة رابين، الذي كان رئيساً لأركان الجيش آنذاك، بانتصار قواته على الجيوش العربية، إلا أنه فوجئ به يردّ عليه قائلاً: ''لكن ماذا سيبقى من هذا كله؟''.

تحيل هذه الواقعة الدالّة إلى الوجه الآخر للمشروع الصهيوني الذي، على الرغم مما راكمه من مكاسب سياسية وعسكرية خلال ما يزيد على مائة عام، أخفق في تخليص اللاوعي الإسرائيلي من كابوس الزوال الذي يلاحق الإسرائيليين. ولا يشكل هذا الكابوس تحدّياً وجودياً فقط، بقدر ما يشكّل، أيضاً، المحرّك الأساسي لسياسات التهويد والاستيطان والتهجير والتقتيل التي تمارسها دولة الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وهي السياسات التي تعكس رعباً دفيناً لم تنجح هذه الدولة في التخلص منه بسبب استماتة الفلسطينيين وتشبثهم بهويتهم، على الرغم من ميزان القوى الذي يميل لمصلحتها. وليس أدلّ على ذلك من المخاوف التي عبّر عنها، مثالاً لا حصراً، رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، في مقال له نُشر، أخيراً، في صحيفة يديعوت أحرونوت، بشأن احتمال زوال إسرائيل الوشيك قبل حلول الذكرى الـ 80 لتأسيسها، مستنداً في ذلك إلى التاريخ الذي يؤكد أن كل الدول اليهودية لم تستطع أن تعيش أكثر من 80 عاماً.

ينتقل هذا الكابوس بين مختلف الأجيال، بدءاً من تلك التي رافقت تحقق الحلم الصهيوني (1948)، وصولاً إلى الأجيال الحالية. وهو ما أراد الكاتب الإسرائيلي، بِي مايكل B. Michael التنبيه إليه في مقاله المنشور نهاية الشهر المنصرم (مايو/ أيار) في صحيفة هآرتس، فقد أعاد فكرة الشتات إلى النقاش العمومي، باعتبارها جزءاً من الهوية اليهودية التي تأبى، بطبيعتها، الانحصار ضمن حيّز جغرافي مهما كانت أهميته بالنسبة إلى الوجدان الشعبي اليهودي. واعتبر أن نجاح اليهود في التكتل ضمن ''الأمة الإسرائيلية'' يبدو وكأنه ردٌّ على المحرقة التي كانوا ضحيتها خلال الحرب العالمية الثانية، لكنه ليس أكثر من إعادة إنتاج لهذه المحرقة التي أضحت مفتوحةً لتغريب أرواح اليهود وسحقها.

قدرة الشعب اليهودي، حسب مايكل، على البقاء على قيد الحياة، رهينة بتكيّفه مع فكرة المنفى، وتجنّب التحوّل إلى دولة مهووسة بالقوة والعنف والتدمير، يقودها متعصّبون غير قادرين على التخلص من بعض التفاهة والشر اللذين تنطوي عليهما اليهودية. وقد أفضى ذلك إلى تشكّل حياة سياسية محكومة بالعنصرية، على الرغم من ديمقراطيتها البادية، إذ لا مجال، حسب الكاتب، لبروز حكومةٍ تنحاز إلى صوت العقل في المستقبل. ولعل أكثر ما يثير الانتباه في المقال، اعتبار أن حياة اليهود كأقلية تنسجم مع طبيعتهم أكثر، لأن ذلك يساعدهم على إبراز مواهبهم في المجتمعات التي يعيشون فيها، ما يعني وصول المشروع الصهيوني إلى الباب المسدود، وهو مأزقٌ لا يمكن التخلص منه، دائماً حسب الكاتب، إلا بالبحث عن المنفى من أجل استعادة قوة اليهود وتميزهم.

قد يقول قائل إن موازين القوى الحالية والدعم الغربي للكيان الصهيوني والانقسام الفلسطيني والانكفاء العربي والإسلامي وغياب الاستقرار السياسي والاجتماعي في المنطقة العربية عوامل تنسف، مجتمعةً، فكرة ''زوال إسرائيل'' من أساسها، على اعتبار أن الصراع محكوم، في النهاية، بوضع جيوسياسي قائم يتطلب تغييره تحولاً جذرياً في ميزان القوى الإقليمي والدولي، بيد أن العودة إلى بعض ما أفرج عنه الأرشيف الإسرائيلي بشأن الحروب العربية الإسرائيلية، واستدعاء الصحافة الإسرائيلية بين حين وآخر هذه الفكرةَ، والاقتناعَ المتناميَ داخل إسرائيل بالفشل في اجتثاث الفلسطينيين الذين يشكّلون معضلة ديموغرافية وثقافية، ذلك كله يؤكّد أن ثمة هشاشة تنخر هذا الكيان من الداخل، لكنها لا تجد، للأسف، من يقرأها جيداً ويستثمرها داخل الدوائر السياسية والثقافية العربية.

 

 عن "العربي الجديد"