بعد أن تصدرت مملكة الحشمونائيم الواجهة الإعلامية من جديد، صار ضرورياً أن نفهمها، وندرس أسباب انهيارها، وهذا يتطلب الرجوع قليلاً في الزمن، وتحديداً إلى بدايات ظهور الديانة اليهودية في حقبة الاحتلال الفارسي للبلاد. حيث عاش اليهود في منطقة أورشليم طوال تلك الفترة متمتعين بما يشبه الحكم الذاتي كإقليم موالٍ وتابع للإمبراطورية، وبعد احتلال المنطقة على يد الإسكندر المكدوني، الذي مات سريعاً، وبموته انقسمت إمبراطوريته إلى أربعة أقسام، كانت فلسطين حصة بطليموس، والتي بدأت في عهده تتحول نحو الهلنستية.
وقد بقيت فلسطين خاضعة للبطالسة (من 300 ق.م - 152 ق.م) الذين طبقوا نفس المبدأ الذي اتبعته الإمبراطورية الفارسية، القائم على منح الأقاليم الخاضعة نوعاً من الاستقلال الذاتي، باعتبار أن هذا أفضل سبيل للسيطرة على شعوبها. وبذلك منحوا اليهود وضعاً خاصاً في أورشليم.
في تلك الحقبة تطورت المدن الفلسطينية، فتدفق السكان الأصليون إليها، للاستفادة من نموها الاقتصادي ومن ميزات الثقافة الهلنستية، وقد انتشرت حينها اللغة اليونانية. وهذا النمط الجديد من الحياة أدى إلى تبلور اتجاهات عديدة من داخل المؤسسة الدينية اليهودية، فظهر تيار يرفض كل أشكال الاتصال مع الحضارة اليونانية، عبّر عنه «الإسينيّون» الذين عاشوا في عزلة عن بقية السكان، كما برز تيار يدعو لممارسة الحياة العصرية الجديدة، مع الحفاظ على حد معين من الخصوصية، وقد عبر عنه «الفريسيون» الذين حاولوا المزاوجة بين الديانة اليهودية وبين اليونانية العصرية (الوثنية)، وقد أنشأ هؤلاء الفريسيون مدارس دينية في العديد من البلدات.
ظهور الفريسيين ونشرهم للتوراة لم يعجب طبقة الكهنة الذين عارضوا بشدة مواقفهم، واعتبروها خطراً على مواقعهم وامتيازاتهم، فلم يعترفوا بالتوراة المنقولة الشفوية، وكانت تلك بداية ظهور حركة «الصدوقيين». وهم تيار ديني متشدد تحالف مع السلطة السلوقية ضد الفريسيين، ما استوجب منهم تقديم بعض التنازلات الدينية للسلطة، والموافقة على دمج بعض الجوانب من اليهودية بالثقافة الهيلينية، كما ازداد تقـرب كهنتهم من السلطات السلوقية، إلى درجة أن بعضهم غيّر اسمه اليهودي إلى اسم يوناني.
وفي هذا يقول شلومو ساند: «ساهم التعايش بين اليهودية والهيلينية في تحويل العقيدة اليهودية إلى دين ديناميكي مهوَّد، ولولا هذا التعايش لظل عدد اليهود عند هذا الحد الضئيل، ولكان عددهم اليوم كعدد السامريين؛ فالهيلينية غيّرت وأثرت في الثقافة الدينية اليهودية».
وفي نهاية العهد السلوقي انطلق تمرد قام به كاهن يدعى «متتياهو الحشمونائي» وأبناؤه «المكابيون»، وقد أيد هذا التمرد كل من روما وإسبرطة، وبعد مقتله تولى القيادة أخوه «يوناثان»، الذي تصالح مع السلوقيين ووطد علاقاته بهم، فـدخل القدس عام 152 ق.م ككاهن أعلى وحاكم باسم السلوقيين، وقد حكمت أسرته من بعده حتى مجيء الرومان عام 63 ق.م. وهي ما تُعرف بمملكة الحشمونائيم، التي دامت 89 عاماً.
تصرَّفَ حكام الحشمونائيم كملوك محليين، ضمن المملكة اليونانية، وليس ككهنة أو زعماء دينيين، وكان واضحاً أن واجبات الملك تتطلب مراعاة التزاماته السياسية تجاه القوى المسيطرة. ولكي يحافظ على بقائه كان على الكيان اليهودي أن يستوعب مظاهر الثقافة الهيلينية، لذلك ألغى الحشمونائيم النظام الديني، واقتصرت وظيفة الكاهن الأكبر ضمن مجال المؤسسة الدينية، التي بقيت تحت سيطرة السلطة العلمانية السلوقية، وقد تميز عهد الحشمونائيم بالصراعات الأيديولوجية الداخلية العنيفة، وقد كان الفريسيون والكهنة يتبادلون التحالف مع الملك على أساس المصلحة السياسية / الاقتصادية، فحاول الفريسيون إدخال عناصر من الثقافة الهيلينية على تفسيرات التوراة، فيما حاول الكهنة دمج التوراة في الثقافة الهيلينية، وقد سقط ضحية هذه الصراعات آلاف الضحايا.
وفي نهاية العهد الحشمونائي، وبدعم من الرومان، الذين لقوا من اليهود دعماً لهم ضد اليونان، نصّب الرومان أسـرة يهودية جديدة لمساعـدتهم في حـكم فلسـطين، بدلاً من المكابيين (الحشمونائيم)، فحكم المنطقة ملوك تابعون لروما عرفوا بِـ «الهرادسة».
وقد اصطدم «هيرودوس» مع رجال الدين اليهود فقام بإعدام كل رجال الكنيس الذين حاولوا التدخل في شؤونه السياسية وعددهم 46 كاهناً، واستبدلهم بكهنة موالين جلبهم من بابل والإسكندرية، ليتولوا المسؤوليات في الهيكل، وفي الواقع فإن «هيرودوس» فصل السياسة عن الدين، وأبقى لنفسه لقب الملك فقط.
في هذه الفترة كان اليهود بلا كيان سياسي ولا حكم ذاتي، وقد نشبت بينهم خلافات حادة حول الشؤون الدينية، فقد تصارع الفريسيون والصدوقيون والأسينيون فيما بينهم بلا هوادة.
وما لبث اليهود أن أشعلوا ولأسباب دينية فتيل التمرد عام 66 - 70 م أثناء حكم «نيرون»، فقضى على هذا التمرد القائد الروماني «فسبسيان»، وبعد استلامه عرش روما أكمل قائده «تيطوس» إحكام قبضته على فلسطين عام 70م.
ويؤكد العديد من المؤرخين أن قصة نفي اليهود من فلسطين على يد «تيطوس»، وتشتيتهم في ربوع الأرض بالقوة لم تكن حدثاً تاريخياً، بل كانت أسطورة ابتدعها محررو الرواية اليهودية؛ نظراً لحاجتهم القومية الماسة لمنفى قسري، وتكمن أهمية «المنفى القسري» كحاجة لفهم التاريخ اليهودي من زاوية تراجيدية، ولتبرير عدم مسارعة اليهود في العودة إلى «وطنهم المزعوم».
ولم يعثر أي منقِّب في السجلات الرومانية الغنية بالتوثيق ولا حتى على إشارة واحدة إلى حدوث أي عملية نفي أو طرد من أرض فلسطين، التي كانت تحت حكمهم آنذاك. كما أن مسألة تهجير آلاف اليهود ظلت تثير سؤالاً لم يجد حلاً بعد: كيف خرجت هذه الأعداد الكبيرة دون أن تترك خلفها أثراً؟ فلم تدل الشواهد التاريخية على أي سلطة أو مملكة أو حتى قرية يهودية واحدة في المناطق التي هُجروا إليها.
خلاصة القول، إن دويلة الحشمونائيم (وكذلك دويلة الهرادسة) كانت سلطة شبه علمانية، تابعة وخاضعة للدولة المستعمرة (اليونان والرومان)، وكانت المؤسسة الدينية ممثلة بمجمع السنهندرين فقط، وهاتان الدوليتان تفككتا من الداخل بسبب الصراعات الدينية الداخلية، وانتهتا بمغادرة طبقة الكهنة البلاد، طوعاً، بعد قمع الرومان لتمردهم، ومن بعدها دخل اليهود فترة التيه والذوبان في المجتمعات التي حلوا فيها، وانقطعت أخبارُهم، ولم يعد لهم تواصل ولا تربطهم أواصر موضوعية سوى إيمانهم الديني، كجماعات متفرقة تعيش في أوطانها الجديدة، إلى أن تم بعثهم بعد 1500 سنة من النسيان، لأغراض سياسية استعمارية، بخرافة الشعب المختار والأرض الموعودة.