خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مصر في شباط 2015، وقّع الجانبان مذكرة تفاهم لإقامة أول محطة نووية في منطقة الضبعة الواقعة في شمال غربي مصر، وفي 19 تشرين الثاني 2015 وقعت مصر وروسيا اتفاقية تقوم موسكو بموجبها بتشييد 4 مفاعلات نووية في مصر، طاقة كل منها 1200 ميغاواط من الكهرباء.
وفي الواقع، فإن اكتشاف حقل غاز طبيعي كبير في مياه مصر، يخفف حافز التحول إلى إنتاج طاقة نووية، ويخففه أيضاً تحسين العلاقات بين واشنطن والقاهرة، فقد شهدنا في الفترة الأخيرة بداية ذوبان الجليد في هذه العلاقات مع رفع جزء من القيود على مبيعات الأسلحة التي فرضتها الإدارة الأميركية على نظام السيسي.
ومع ذلك، أعلن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في خطاب مسجّل نقله التلفاز المصري عقب توقيع الاتفاقية: «كان حلماً بناء برنامج نووي من أجل حاجات السلام في مصر». إن حجر العثرة الرئيسي الذي يقف في طريق تنفيذ المشروع يتعلق بمسألة التمويل. فوضع مصر الاقتصادي لا يسمح لها بتحقيق مشروع من هذا النوع، وهناك شك في أن تكون المملكة العربية السعودية، التي تدعم نظام السيسي اقتصادياً، قادرة على تمويل هذا المشروع الطموح في ضوء الضغوط الشديدة المتعلقة بالميزانية التي ترزح (المملكة) تحتها بفعل انخفاض أسعار النفط.
وقد أعلن السيسي أن مصر ستسدد القرض من خلال بيع الكهرباء التي ستنتجها المفاعلات بعد أن يبدأ تشغيلها بحلول العام 2022.
بيد أنه من المقرر أن تقرض موسكو مصر المال اللازم لبناء المفاعلات، وذلك من ضمن اتفاق شامل مع مصر، يشمل تزويد وقود (نووي) للمفاعلات، والصيانة الدائمة والتدريب وأعمال التصليح. على خلفية ما تقدم، وبالإضافة إلى جانب محاولات روسيا التوصل إلى تسوية تضع حداً للحرب الدائرة في سورية، لا بد من إلقاء نظرة على المسار الآخر في الدبلوماسية الروسية في منطقة الشرق الأوسط، ألا وهو: مشاريع بناء مفاعلات نووية مدنية.
إن روسيا ليست لاعباً جديداً في السوق النووية المدنية في منطقة الشرق الأوسط، ولكن يلاحظ تصاعد إرادة التعاون بين موسكو ودول من المنطقة في هذا المجال، يتجلى ذلك في انخراط روسي متزايد في بيع معرفة ومنشآت نووية ضمن المنطقة. وتندرج هذه القناة من النشاط في إطار مجهود روسي شامل لترميم علاقات روسيا مع دول المنطقة وتحسينها عقب الجمود الذي سادها إبان أحداث «الربيع العربي».
ويرمي هذا المجهود إلى خدمة جملة أهداف لروسيا في هذه المنطقة وفي الحلبة الدولية، تتصل بالمواجهة بينها وبين الولايات المتحدة. ويتم التدخل العسكري (الروسي) في سورية في إطار تحالف مع جيش الأسد وكذلك مع إيران ومن يدور في فلكها، وذلك كجزء من سعيها لتسبق الدول الغربية في إرساء تعاون سياسي واقتصادي مع إيران.
ومن الصحيح أن النشاط (الروسي) في سورية يستهدف محاربة الإرهاب الإسلامي مع التركيز على تنظيم «الدولة الإسلامية»، من أجل تقليص التهديد الذي يطرق أبواب روسيا نفسها، والمتمثل في عناصر إسلامية متطرفة تسعى إلى توسيع نطاق نفوذها إلى داخل حدودها، بيد أن الغاية الأساسية المتوخاة هي تحقيق إنجاز في الحلبة الدولية، ومن ضمنه التأثير في مستقبل سورية وهندسة المنطقة بقيادتها. وعملياً، روسيا معنية في التوصل إلى حوار مع الدول الغربية، من بين عدة أمور، من خلال الإمساك بأوراق مساومة من أجل التقدم نحو تسوية شاملة في منطقة الشرق الأوسط (سورية أولاً) وفي أوروبا الشرقية. وبالنسبة لمصر، لكن ليس بالنسبة لها وحدها، فإن الخيار الروسي جذاب لأنه غير مصحوب بمطالب وقيود مرتبطة بالتعاون النووي مع الغرب. إن الأعوام الخمسة الأخيرة لم تكن جيدة للعلاقات بين الولايات المتحدة وعدد من حليفاتها التقليدية في المنطقة، ويبدو أن هذه ترغب في أن تلمح للإدارة الأميركية أن لديها خيارات مفتوحة، وبينها النووية.
كما أن رغبة هذه الدول في تطوير برنامج نووي مرتبطة أيضاً بضرورة بلورة حلول بعيدة المدى لتلبية احتياجاتها المتزايدة من الطاقة، ومن هنا تطلعها إلى بناء قدرات نووية مدنية، كالتي سُمح لإيران بتشغيلها على أراضيها نتيجة الاتفاق النووي بينها وبين القوى الكبرى.
كما أن تعاوناً نووياً مع تلك الدول يشكل أيضاً مصلحة حيوية بالنسبة لروسيا، إذ تأمل أن يساعدها ذلك في تغطية ضائقتها المالية، التي تفاقمت من جراء تراجع أسعار النفط. وربما تخشى روسيا أن يؤدي الاتفاق النووي المبرم بين القوى الكبرى وإيران إلى إقصائها عن السوق الإيراني وفتح أبوابه أمام الدول الغربية.
ويمكن أن يكون التوجه إلى أسواق بديلة أحد الاستجابات الروسية للظروف الجديدة، التي قد تنشأ في المنطقة بعد المصادقة على الاتفاق مع إيران. ليست مصر الدولة الوحيدة التي تعمل روسيا على تعزيز التعاون معها في هذا المجال. وتفيد التقارير بأن إيران تنوي أن تبني بالتعاون مع موسكو مفاعلين نوويين إضافيين في «بوشهر»، بمحاذاة المفاعل القائم في هذا الموقع والذي بدأ بتوليد الطاقة، العام 2011.
وبالإضافة إلى إيران، وقعت روسيا اتفاقات متعددة، بعضها لبناء مفاعلات وبعضها الآخر لنقل المعرفة (الخبرة النووية) لحليفات الولايات المتحدة في المنطقة. وقد شرعت الشركة الحكومية الروسية «روس أتوم» ببناء أربع مفاعلات نووية، طاقة كل منها 1200 ميغاواط، في أكويو في (جنوب) تركيا، مع توقع أن يتم ربط المفاعل الأول بشبكة الكهرباء التركية بحلول العام 2023. ومع ذلك، وعلى ضوء الأزمة بين الدولتين التي أعقبت إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية، فإن مستقبل هذا المشروع يكتنفه الغموض.
إن الطلب المتزايد على الطاقة في الأردن، وعدم وجود احتياطات نفطية (المملكة الأردنية تستورد نحو 90% من احتياجاتها من الطاقة)، والهجوم المتواصل سواء على خط تزويد النفط من العراق وخط تزويد الغاز من مصر، دفع بالمملكة إلى أن ترغب في بناء قدرة نووية مدنية على أراضيها. وفي آذار 2015، وقّع الأردن مع شركة «روس أتوم» اتفاقاً لبناء مفاعلين نوويين؛ ومن المقرر أن يبدأ الأول بالعمل بحلول العام 2024، والثاني بحلول العام 2026. وتبلغ قيمة الصفقة نحو 10 مليارات دولار، بحيث يمتلك الأردن 51% من قيمة المفاعلات وتمتلك روسيا النسبة المتبقية. والأردن الذي توجه في البداية إلى واشنطن طالباً مساعدتها، بدأ يتفاوض أيضا مع الروس بعد أن رفض طلباً أميركياً بعدم تشغيل دورة وقود نووي (كاملة ذاتية/محلية) على أراضيه. وحتى كتابة هذه الأسطر لم يتوصل الجانبان (الأردني والروسي) إلى اتفاق نهائي حول تفاصيل تمويل المشروع. المملكة العربية السعودية أيضاً أطلقت برنامجاً نووياً مدنياً، من أجل، كما تدّعي، تلبية احتياجات الطاقة المتزايدة، لا سيما وأنه في نهاية العقد القادم (2030)، ونظرا لوتيرة الاستهلاك الحالية، من المحتمل أن تضطر لتخصيص معظم كميات النفط التي تنتجها للاستهلاك الداخلي. ويطلب السعوديون مساعدة خارجية، من أجل امتلاك القدرات ذاتها التي تقوم إيران ودول مجاورة أخرى في المنطقة بتطويرها، أو توشك على تطويرها. ولهذا الغرض، أنشئت في المملكة سلسلة من المشاريع ووقعت اتفاقيات، وآخرها مع روسيا.
فقد وقعت الدولتان في حزيران من العام 2015 اتفاقاً تقوم روسيا بموجبه ببناء ودعم برنامج نووي مدني في المملكة. وهذا الاتفاق ليس الأول من نوعه بين الجانبين، وليس واضحاً على الإطلاق ما إذا كان سيؤول إلى تحسين العلاقات بينهما، على ضوء التوتر الذي سادها في الأعوام الأخيرة، وأساساً على خلفية الحرب الأهلية في سورية ودعم الروس للأسد. ومع ذلك، تؤكد مصادر سعودية أن «روسيا ستلعب دوراً رئيسياً في مشروع المملكة الطموح».
وأبعد من التعاون النووي بين مصر وروسيا، تقوم روسيا بتزويد مصر بمقاتلات متقدمة، وكما هو متوقع، بمنظومة الدفاع الجوي الصاروخية (بعيدة المدى) من طراز S-300. ومن المتوقع أن تتسلح إيران أيضاً بمنظومة من هذا النوع، فضلاً عن طائرات متطورة وأنظمة سلاح إضافية.
كما أن المملكة العربية السعودية، بالإضافة للتعاون النووي مع روسيا، من المحتمل أيضاً أن توسع نطاق مشترياتها من منظومات أسلحة روسية متقدمة. ومؤخراً، وبعد تدخل روسيا عسكرياً في سورية، بتحالف مع إيران، أصبحت إسرائيل تواجه منظومة متراكبة مكونة من جيش سوري وجيش إيراني وقوات «حزب الله»، مدعومة بالتواجد العسكري الروسي في سورية.
لا يمكن لإسرائيل أن تتجاهل منحى تسلح جاراتها الشامل بمنظومات أسلحة روسية متقدمة، أو دخولها المتسارع للمجال النووي، ولا سيما أن هذه البرامج قد تشكل قاعدةً لتوسيع المعرفة في هذا المجال، وغطاءً لامتلاك قدرات نووية عسكرية، وبنوع خاص إذا كان نقل المعرفة العتيد يشمل قدرة تخصيب اليورانيوم.
إن روسيا حريصة من جهتها على المحافظة على علاقات إيجابية مع إسرائيل، التي تعتبرها لاعباً إقليمياً مهماً. وروسيا في نظر إسرائيل أيضاً هي لاعب رئيسي في المنطقة، وتنسق الدولتان خطواتهما بهدف منع الصدام بين قواتهما العسكرية في الأجواء السورية. وفي الوقت عينه، تتوقع إسرائيل من روسيا أن تأخذ بعين الاعتبار مصلحة إسرائيل الأمنية.
وكما يبدو، يوجد للدولتين مصلحة بحوار ينظم مجالات مصالحهما، لكن هناك شك في ما إذا كان بمستطاع إسرائيل إقناع روسيا بتضمين الاتفاقيات الموقعة بينها وبين دول في المنطقة ترغب في امتلاك منشآت نووية، بنودا مقيدة - مثل تلك المدرجة في الاتفاق بين الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة في الشأن النووي. بالإضافة إلى ذلك، حتى لو تمكنت إسرائيل من التأثير بمقدار معين على موسكو، هناك شك كبير فيما إذا كانت دول المنطقة، التي رفضت حتى الآن طلباً أميركيا بإلزام نفسها بشروط وقيود، ستستجيب لمطالب مماثلة من جانب روسيا.
عن «مباط عال»
* ثلاثة باحثين في معهد دراسات الأمن القومي.