من وحي الوطن (3) الجزائر تجمعنا.. ولكن لا أمل يلوح في الأفق!!

5915edc87becbe31da6938fd6cfd55af.jpg
حجم الخط

بقلم : د. أحمد يوسف

 

 

خلال جولات جسِّ النبض وتقديم الرأي والمشورة، أشادت وفود الفصائل الفلسطينية بكرم الضيافة وحسن الوفادة التي لقيتها في الجزائر؛ بلد المليون ونصف المليون شهيد، فالجزائر ما تزال هي الأعلى يداً ومدداً للفلسطينيين بين العرب والمسلمين.. ولعله من باب الواجب توجيه الشكر للجزائر، كونها قامت بتحريك المياه الراكدة، ووجهت الدعوة لطرفي النزاع الفلسطيني، بأمل أن تسفر هذه الخطوة عن مصالحة تُحي آمال الفلسطينيين بقرب اجتماع الشمل وإنهاء الانقسام، ولكن -للأسف- كان مشهد اللقاء الذي عبَّرت عنه الصور التي خرجت بها وسائل الإعلام مخيبة للآمال، وكذلك البيانات التي أعقبت اللقاء.


لا شك أن الجزائر التي سوف تستضيف القمة العربية في تشرين الثاني القادم كانت تهدف في مسعاها من هذا اللقاء أن تُمهد الطريق أمام الفلسطينيين ليلتقوا وتتوحد مواقفهم، وتكون مشاركتهم في تلك القمة على قلب رجل واحد وحكومة واحدة، ولكن حتى الآن لا إرهاصات يمكن أن تعطي مؤشرات لأمل يتشكل في رحم ما هو قائم من خلافات واتهامات ومظاهر مكر لا تتوقف ألاعيبها مع تقلبات الليل والنهار.


صحيحٌ، أن الجزائر قد رعت أكثر من لقاءٍ لفصائل العمل الإسلامي والوطني الفلسطيني خلال الشهور الماضية، وهي بعد هذه اللقاءات أصبحت لديها رؤية حول احتماليات نجاح المصالحة من عدمها، وهي بتاريخها النضالي وأثرها الكبير في دعم القضية الفلسطينية لن تخاطر باحتضان مصالحة تنتهي تحركاتها بالفشل، كما جرى مع مبادرات عربية وإسلامية سابقة رعتها دولٌ كالسعودية والسنغال وقطر، وأعطت الانطباع داخل الشارع الفلسطيني والعربي أن الجميع جاء مهرولاً من أقصى المدينة برغبة وقدر.. نعم؛ هناك وجهات نظر وتباينات، ولكن هناك ما يحدو الكلُّ الفلسطيني بأن الفرصة قائمة لالتئام الشمل سياسياً على رؤية وطنية جامعة لمواجهة مخططات العدو واستراتيجيته الهادفة لابتلاع ما تبقى من الأرض والوطن الفلسطيني، ولكن كانت الخيبة والإحباط وعاقبة الأمر تبدو جميعها خُسرا؛ لأن حسابات الحزب والقبيلة هي سيدة القرار!!


في الحقيقة، لم تبخل الجزائر في بذل ما يكفي من الجهد وإسداء النصيحة، ولم يلح في أفق ما بذلته أية تقصير أو تشكيك بدوافعها الصادقة في أن يتمخض مشهد المبادرة عن رؤية للفلسطينيين وقد اجتمعوا صفاً واحداً وشكلوا طليعة نضالية، يمكنها أن تمثل "رأس الحربة" لأمة عربية وإسلامية، كانت معنا على العهد والوعد بالمشاركة في معركة "المغالبة الكبرى" مع الاحتلال والحركة الصهيونية.


إجمالاً، كانت الجزائر تاريخياً، وفي حسابات معادلة تقديم المال والسلاح والتعبئة والدعم المعنوي، هي الأولى بلا منازع، فعقيدة الجزائريين ومنذ انتصار الثورة على الفرنسيين المحتلين ونيل الاستقلال غام 1962، هي أنهم "مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، والعهد ما زال هو العهد والقسم هو القسم.


بعد مغادرتي أمريكا في منتصف العام 2004م، عشت في الجزائر عامين، تعرفت فيهما عن قرب على أصالة الشعب الجزائري بمختلف فئاته وأعراقه وتياراته السياسية والدينية، وكنت ألمسُ من المواقف جميعاً أن فلسطين هي القضية التي تحظى بينهم بالإجماع، إذ لا خلاف بين العامة والنخب حول نُصرتها والوقوف إلى جانبها، وهي ظاهرة لا يلتقي عليها بهذا الوضوح والمبدئية والحماس أية شعوب عربية أو إسلامية أخرى.


إن تمنياتنا ألا تنتهي هذه الجهود الجزائرية بالخيبة والعودة بعد المداولة بِخُفَيِّ حُنين، والأمل أن يكون لهم سهمُ خيرٍ في اجتماع الشمل الفلسطيني.
إنَّ علينا أن ندرك كفلسطينيين أن الرؤية التي تقدمت بها الرئاسة وحركة فتح أو ما تحدثت به حركة حماس من أفكار غير كافية لردم هوَّة الخلافات القائمة وتحقيق التقارب وإنجاز المصالحة، وأن المطلوب من الطرفين هو استعدادات أكبر وأفضل للمزيد من التنازلات لصالح الوطن والوحدة الوطنية، وليس خطوات متأرجحة تُبقى حالة الشك والتردد والمراوحة في المكان على حالها، وكلُّ طرفٍ له اشتراطات يُدندن بها، وفي عقله أن الآخر يمكر به، ويتربص للحظةٍ أخرى مواتية للانقضاض عليه، وهي شبكة واهية -مع الأسف- من التوجُّسات والظنون، كتلك التي تتلبس رأس البعض عندما يتحدث عن "انقلاب أبيض" يُخطط له خصمه السياسي لشطبه أو تجريف وجوده السياسي، ونحو ذلك!!


لقد سبق وأن نصحنا منذ أكثر من عقد ونصف العقد بأن على الجميع أن يعتذر للآخر؛ لأن الكارثة بالشكل الذي حدث لا يمكن أن يكون مسؤولاً عنها طرف بذاته، بل هي خطيئة الجميع؛ من حمل السلاح ومن التزم الصمت أو غض الطرف عما كان يجري من تحريض وتغذية حزبية وحشد عسكري لعملية سيكون وقودها الدم والحجارة والدموع والرصاص.


ختاماً.. للجزائر التي لها تجربة رائدة مع أحداث مشابهة إبَّان ثورة التحرير في الخمسينيات، وقد تمكت -آنذاك- من النجاح في معالجتها والتخلص بحكمة من عقابيلها في مؤتمر الصومام عام 1956، أن تواصل مساعيها الحميدة، لعل وعسى!!
أما نحن غالبية الشعب الفلسطيني والذين دفعنا ثمن هذا الانقسام، فلن تخدعنا الصورة التي شاهدناها لمصافحة الزعيمين في الجزائر، ولا هتاف بعض السُذَّج وقد ترآءت لهم تلك السحابة من الصيف، فولولوا: "هذا عارضٌ ممطرنا"!! فيما الحقيقة أن ما نمر به أشبه بنسمات ريح ستأخذها الزوابع بعد حين، بانتظار أن يُغيّب أو يتغير من واقع مشهدنا في الحكم والسياسة كل من كانوا صُنَّاعاً للأزمة أو مسؤولين مباشرين عمَّا حدث من كارثة وطنية مأساوية دامية، وثاراتها -للأسف- ما تزال معلقة في رقاب الجميع دونما استثناءٍ لأحد.