أميركا والشرق الأوسط ونظرية فراغ القوة الجديدة

ناجي-شراب.jpg
حجم الخط

بقلم: د. ناجي صادق شراب

 


في تأكيد للرئيس بايدن في قمة جدة للأمن والتنمية أن واشنطن لن تتخلى عن الشرق الأوسط،حيث تلعب منذ عقود دورا سياسيا وعسكريا محوريا. وأنها ستعتمد رؤية جديدة للمنطقة الإستراتيجية ،وأنها لن تسمح بوجود فراغ للقوة تملؤه قوى أخرى.
هذا التصريح يحمكل دلالات وتداعيات سياسية عميقة ، ولا يمكن فهم مفرداته إلا في سياقات متعددة يأتي في مقدمتها أهداف ومبادئ السياسة الخارجية في المنطقة، والثاني في ضوء التحولات السياسية الكبرى التي يشهدها التنافس بين القوى الكبرى على إعادة صياغة النظام الدولي على التعددية وليس الأحادية . وثالثا: في ضوء تصاعد دور القوى الإقليمية كإيران وسعيها لإمتلاك القوة النووية. ورابعا:هذا التصريح يرتبط بالحرب الأوكرانية وما افرزته من تداعيات وتهديدات كونية إقتصادية وعسكرية تمس مفهوم الأمن الأميركي.
وتقف وراء هذه الزيارة أهداف وأولويات ومصالح إستراتيجية عليا للولايات المتحدة ابرزها أمن وبقاء إسرائيل وهذا تم التأكيد عليه من خلال إعلان القدس الذي يمثل مرحلة متقدمة في العلاقات الإستراتيجية للولايات المتحدة وإسرائيل، وأحد اهم الأسباب للبقاء في المنطقة. والسبب الثاني الأهمية النفطية والإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، فالسعودية والإمارات تمثلان قوة نفطية كبيرة وتؤثران في القرار الإقتصادي العالمي، وهذا يتمثل في حضور السعودية في دول العشرين،ولذلك الأمن النفطي وضمان تدفق النفط بأسعار معقولة للولايات المتحدة وحلفائها يشكلان سببا آخر للبقاء في المنطقة ويرتبط بهذه الأهمية الإستراتيجية ان المنطقة باتت هدفا وأولوية عليا لكل من الصين وروسيا وبناء شراكات إستراتيجية مع دول المنطقة ، وهذا يشكل تهديدا مباشرا لمصالح الولايات المتحدة، فالمنطقة تعتبر احد مكونات ومتطلبات اي قوة تسعى للهيمنة على قوة النظام الدولي . والتساؤل: هل حققت الزيارة أهدافها؟ في ضوء مخرجات الزيارة فقد أعطت كل طرف ما يريد ، فعلى مستوى العلاقات مع إسرائيل حققت الزيارة أهدافها ومنحت إسرائيل اكثر مما تتوقع ب"إعلان القدس" الذي يجدد التزامات الولايات المتحدة وبتقديم الدعم الإقتصادي والعسكري ، واهم ما فيه الإلتزام بعدم إمتلاك إيران القوة النووية حتى لو إقتضى ذلك اللجوء للقوة العسكرية، وهو ما يعني إما ذهاب الولايات المتحدة لعمل عسكري أو إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل بقيام عمل عسكري وهذا أكثر إحتمالا. وفلسطينيا لا جديد في المواقف والسياسات الأميركية، بإستثناء الإستمرار في تقديم الدعم المالي للسلطة ووكالة الغوث وتكرار الموقف التقليدي من حل الدولتين دون التقدم خطوة إلى الأمام. وإنتظارا لفتح قنصلية في القدس الشرقية وفتح مكتب منظمة التحرير، وهذا قد يكون مرهونا بالإنتخابات النصفية للكونجرس الأميركي والإنتخابات الإسرائيلية. واما على مستوى العلاقات مع السعودية ودول الخليج، يمكن القول ان الزيارة قد حققت بعضا من أهدافها في مجال الطاقة ، وفي التأكيد على إعادة بناء العلاقات الإستراتيجية التقليدية مع السعودية والتي تم خلالها توقيع 18 اتفاقا في مجالات متعددة. مع مراعاة إستقلالية دول المنطقة في بناء علاقاتها الإستراتيجية الخارجية وتنويع شراكاتها مع دول أخرى كالصين ورورسيا، وهذا ما ينبغي ان تدركه الولايات المتحدة، والإلتزام بتوفير الحماية الأمنية من التهديدات الخارجية والتصدي لكل أشكال العنف والإرهاب، والعمل في إتجاه حل الحرب في اليمن. وما يستوقفني في تصريح الرئيس بايدن قوله أن الولايات المتحدة لن تترك منطقة الشرق الأوسط ، ولن تسمح بوجود فراغ قوة تملؤه قوى أخرى. والمقصود هنا الصين وروسيا وإيران. وهذه الرؤية الجديدة قد تأخذ سيناريوهات مختلفة منها تشكيل "ناتو" أو هيكل عسكري جديد يضم إسرائيل وهذا السيناريو قد يكون مستبعدا بتأكيد وزير الخارجية السعودية ان اي علاقات تطبيع مع إسرائيل يتوقف على الحل السياسي للقضية الفلسطينية وقيام الدولة الفلسطينية ، والسيناريو الثاني تفعيل العلاقات الإستراتيجية والأمنية والعسكرية مع الولايات المتحدة وهو الأكثر واقعية ، واما السيناريو الرابع فهو تفعيل وتطوير القدرات العسكرية لدول المنطقة والتنسيق بين قادة الدول التي حضرت قمة "جدة" مصر والعراق والأردن. هذه الرؤية الجديدة للولايات المتحدة لا تعني العودة للنظرية التقليدية لفراغ القوة التي تبنتها الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضى وتبني مبدأ "أيزنهاور". وقد تعتبر إمتدادا لرؤية إدارة الرئس أوباما التي تقوم على تقليص الوجود الأميركي مع تبني مقاربة إعتماد دول المنطقة على إستراتيجية الدفاع الذاتي عن النفس، وتختلف عن مقاربة إدارة ترامب بالإنسحاب من المنطقة.
نحن إذن امام رؤية إستراتيجية أميركية جديدة في المنطقة تقوم على مفهوم جديد للشراكات الإستراتيجية مع مراعاة التحول في دور دول المنطقة وتنامي قدراتها وتنوع شراكاتها الإستراتيجية مع مراعاة مصالحها ورؤيتها الخاصة. نموذج جديد للشراكة الإستراتيجية تفرضه تحولات القوة الإقليمية والقوة الدولية .