بداية هذه المقالة لا تتناول مصطلح "الإدمان" (Addiction) بمعناه التقليدي المتعارف عليه – أي إدمان تعاطي الممنوعات- وإنما تعالج الموضوع من زاوية أخرى أكثر اتّساعًا تشمل كل الانشطة والعادات التي يمارسها الشخص بشكل يومي، ويبالغ فيها، وهو بهذا المعنى لا يخلو من الإيجابيات والسلبيات.
"الإدمَان" لغةً: مصدر مشتق من الفعل الرباعي (أَدْمَنَ) الذي تعود مادته للجذر (أدم) و(دوم)، وعند تحليله نجد أنه يتكون من (أدم) + (ن). وورد في معجم (العين) للخليل بن أحمد: دوم، ودَيَمَ: ماء دائم: ساكن، والدَّوْمُ: مصدر دامَ يدوم. ودامَ الماءُ يدومُ دَوْماً، وأَدَمْتُه إِدامةً إذا سَكَّنتُه، وكُلُّ شيءٍ سَكَّنْتَه، فقد أدَمْتَه. والدِّيمةُ: المطر الذي يدوم دوماً يوماً وليلةً أو أكثر. وعلى مستوى التركيب يعتبر البعض أن الإتيان بحرف الجرّ (على) بعد الفعل (أدْمَنَ) مُتَعدٍّ بنفسه، ولا يحتاج لحرف الجرّ بعده، فلا يُقالُ: (أَدْمَنَ على المُطالعة)، فَيُعَدُّون الفعل (أدْمَنَ) بحرف الجرّ (على)، وكأنهم يقيسونه على الفعل (واظَبَ)، وهذا خَطَأٌ، والصوابُ: (أدمَن المُطالعةَ)، لأنّ الفعل (أدمَنَ) يتعدّى بنفسه، فتقول: (أدمَنَ الشَّيْءَ)، إذا أدامَهُ، ولم يُقْلِعْ عنه، وقد أنشدَ الشاعر:
فَقُلْنَا أَمِن قَبْرٍ خَرَجتَ سَكَنْتَهُ لكَ الويلُ! أمْ أَدْمَنتَ جُحْرَ الثَّعَالبِ؟(1)
ولذلك سميت المُدَامَةُ الخمر؛ لأنّه ليس من الشراب شيءٌ يُستطاعُ إِدامة شُرْبه غيرُه(2). وَإِذا لَازَمَها شاربُهَا فَلم يستفق، قيل: (أدمَنَ)(3). ومدمن الخمر: المداوم على شربها (Wine addict): الذي لا يستطيع ترك الشيء لأثرٍ يتركه فيه يمنعه من التخلي عنه، كالإدمان(4).
ولم يقتصر استعمال مفردة "الإدمان" على الخمر وحَسْب، بل يُقال: "أدمنت" الشيء لَزِمته(1). والمُدْمِنُ Proven)): اسم فاعل مُشتقٌّ من الفعل (أدمن)، بمعنى المداوم على الشيء. وقد تناول الزمخشري الاستعمال المجازي لمادة (دَمِن) فقال: في قلبه دِمْنَةٌ، وهو الحِقدُ الثّابِتُ الّلابِد، وقد دَمِنَ قلبُهُ عليه، ودَمِنَ فناءَ فُلانٍ: غَشِيَه ولَزِمَه، ولا أُدْمِنُ بَابَك: لا أغْشَاه. ثم قال: "وأدمن الأمر وأدمن عليه: واظب"(2).
مما سبق يتضحُ أن معاني الفعل (دامَ) و(دَوم) تدلُّ كلها على ملازمة القيام بالفعل، والتتابع والاستمرار والانتظام والسكون على حال معينة. وهكذا فالإدمان يشير إلى استدامة حدوث أمر ما، سواء كان خيرا أو شرا.
الإدمان السلوكي وأنواعه:
وأهل الاختصاص يميزون بين ما يسمّى بالإدمان المادّي والإدمان السلوكي. ويُقصد بالإدمان المادي بشكل خاص إدمان المخدرات أو الكحول والمهدئات، بينما يطال الإدمان السلوكي الممنوعات والمحظورات، مثل الميسر، أو أي عادات ونشاطات عادية يؤدي استحواذُها على شخصٍ ما ومبالغتُهُ في الانصراف إليها، إلى جعل سلوكه غيرَ مقبول.
إذن نحن نتحدثُ هنا عن "الإدمان" بوصفِه حالةً من التعوُّدِ على سلوكٍ ما، بحيث يصبح ذلك السلوك سمةً مميِّزة للشخص، فلا يفارقه ولا يستغني عنه مهما كلفَ الثمن أحيانا. فالشخص المدمن لا يحقق ذاته، ولا يشعر بقيمة وجوده سوى بممارسة ذلك السلوك. إذن نحن هنا أمام إفراطٍ في الفعل قد يقود تفريط وتقصير في أداء الواجبات والمسؤوليات الأخرى، فضلا عن الآثار السلبية الناجمة عنه على الصحة الجسدية والنفسية والعقلية.
ولعل من أشهر أنواع الإدمان المقبول إلى حدٍّ ما، إدمان القراءة والمطالعة، الذي غالبا ما يتحول إلى سلوكٍ سلبي إذا أدى إلى العزلة الاجتماعية، أو إذا كان الشخص يركّز على قراءة نوع معين من الكتب أو المؤلفات، بحيث يرفض كل ما عداه، ولا يصغي لغيره، الأمر الذي يجعله يحبس نفسه في زاوية ضيقة، ويخلق لديه تعصباً مقيتاً تجاه ما يقرأه أو يطالعه، وأعني هنا ما يمكن أن نسميه "القراءة الموجَّهة" guided reading))– ولا سيما في القضايا الدينية العقائدية أو المذهبية مثلاً- فيصبح العقل متحجراً، والأفق ضيقاً، لأنّ صاحب هذا النوع من الإدمان تجده غالبا لا يؤمن بحق الاختلاف في الرأي، وتجده أسيراً لفكرة معينة أو لأيديولوجيا تتبع جماعة ما هنا أو هناك، وذلك لاعتقاده بأنّ ما يقرأه هو الحق والصواب الذي لا يقبل نقداً ولا تعديلاً.
وهناك إدمان مشاهدة التلفاز (TV Addiction) الذي يشكل خطرا كبيرا على الأطفال، بدءًا بالنظر، ومرورا بالكسل والخمول وضعف التركيز، ثم عدم التفاعل أو الانسحاب من الحياة الاجتماعية، ولا يخفى على أحد تأثير ما تبثه القنوات الفضائية من مشاهد غير لائقة ولا سيما ضد فئة الشباب والأطفال. ولا يمكننا بالطبع أن نتجاهل العديد من الإيجابيات، وخاصة في القنوات التعليمية، أو بعض القنوات التلفزيونية الجادّة التي تناقش مختلف القضايا التي تهم مجتمعنا بمختلف فئاته العمرية، والتي تساهم في رفع نسبة الوعي والثقافة بين الناس.
أيضا هناك الإدمان الإلكتروني، أو إدمان الإنترنت (Internet Addicts) – أي إدمان تصفّح مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها-، والتي لا تقل مخاطرها عما ذكرناه عن التلفاز، إضافة إلى استغراقها للكثير من الوقت والمال، وما تسببه من الضجر والضيق لمختلف الفئات العمرية.
ولعل من أكثر تجليات الانحراف السلوكي والنفسي في مجتمعنا إدمان الجلوس على الطرقات وما يُرافِقُهُ من غيبة ونميمةٍ، ونشرٍ للإشاعات، وهتك لأعراض الناس، وإضاعة للوقت في اللغو والكلام الفارغ.
ولا يسعنا أن نتناول كل أنواع الإدمان بالتحليل والتعليق، إذ إن هناك الكثير من أنواع الإدمان التي تحتاج إلى دراساتٍ وأبحاثٍ جادة لمناقشتها، والتعرف على أسبابها، وما لها وما عليها. فهناك على سبيل المثال إدمان السفر والتنقل، وإدمان الرياضة، وإدمان الأكل والشراب لأصناف معينة منهما. وأرى أن الإدمان كمفهوم يمتد ليشمل الكثير من الظواهر السلبية في حياتنا، فمثلا هناك إدمان الذل والضعف والاستكانة، وهناك إدمان التبعية والانقياد للآخرين والتزلف لهم، وهناك إدمان النفاق والرياء، ولعل من أبرز مصاديق الإدمان من منظور الدين اتباع النفس هواها، والغرق في الشهوات، بسبب طول الأمل والانغماس في الدنيا وملذاتها، مما يجعل المُدْمِنَ ألعوبةً أو أداةً تعصف بها الأهواء وتحركها الرغبات والنزوات، والإدمان بهذه المعاني القبيحة من مُخرجات النفس الأمّارة بالسوء، التي ينبغي محاربتُها ومخالفتُها.
في الحقيقة إن إدمان القيام بسلوك معين أمر مرتبط بمقدار ما يتمتع به الفرد من قدرة على التحكم بنفسه وبتصرفاته؛ حيث تتكرر العادة ويزداد الشغف والاهتمام بها، حتى يصل المُدمن إلى مرحلة يفقد خلالها السيطرة على نفسه، ويفشل في إدارة حياته.
هنا يجب ألا ننسى أن شغف الكثيرين بالعمل لا يعني استمتاعهم به، بل يرافقه المعاناة الناتجة عن الإرهاق والتوتر والتذمر الشديد، وكأنهم في ذلك يتساوون مع مَن لا يعملون..!!
ولا يخفى على أحد أن الهروب من الواقع في كثير من الأحيان وهمٌ وخيال، فعلاج المشكلات يكون بمواجهتها، وليس بالفرار من أمامها.
وخلاصة القول، فإن لكل نوع من أنواع من الإدمان – حتى لو كان في الأمور الإيجابية- حسناته وسيئاته، والحل يكمن في الوسطية التي هي خير الأمور، فلا إفراط ولا تفريط، فكل شيء خُلِق بقدر، والمبالغة تفسد أي سلوك أو عادة حتى لو بدت في ظاهرها مقبولة ومستحسنة.