ليس سهوا ولا خطأ خلوّ العنوان أعلاه من علامة استفهام، فليس ثمّة سؤالٌ هنا (فعل هذا محمود درويش في عنوان مجموعته "لماذا تركت الحصان وحيدا")، وإنما هي مبتدأ ظاهرٌ، الخبر له أنّهم في البحرين استجابوا لطلبٍ إسرائيليٍّ منهم إقالة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة من منصبها رئيساً لهيئة البحرين للثقافة والآثار. لا ينطق مرسوم الملك حمد بن عيسى رقم 88 لسنة 2022 بهذه الإقالة، وإنما بتعيين الشيخ خليفة بن أحمد آل خليفة رئيساً للهيئة، وهو المرسوم الصادر يوم الخميس 21 يوليو/ تموز الحالي، ساعاتٍ بعد اتصالٍ هاتفيٍّ بين ولي عهد البحرين رئيس الوزراء سلمان بن حمد ورئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي، يئير لبيد، (لا تُخبرنا وكالة أنباء البحرين الرسمية من اتصل بمن)، وأعقبه الأخير بالتغريد إنّ البلدين "يعملان لتحقيق رؤية مشتركة لشرق أوسط مستقرّ ومزدهر". ولمن يستطيب أن يرمي صاحب هذه الكلمات بتوطّن سوء الطوية، عندما يفترض أنّ إقالة مسؤولةٍ في البحرين، تتولّى رئاسة هيئةٍ ثقافية، من منصبها، جاءت استجابةً لطلب إسرائيلي، فله ذلك، غير أنّ الحالة هذه لا تتعلق بأنّ سوء الظن من حُسن الفطن وحسب، ولا أيضاً بأنّ واقعة عدم مصافحة الشيخة مي السفير الإسرائيلي في المنامة (اسمُه لمن يهمّه الأمر إيتان نائيه) في مجلس عزاءٍ أقامه في منزله السفير الأميركي (اسمُه ستيفن بوندي) لوفاة والده، والتي كانت، حتماً، وراء "عقوبة" الإقالة، جرت قبل ستة أيام (السبت 16 يوليو/ تموز) من إشهار المرسوم 88 والمكالمة بين لبيد وسلمان (أكّدت على أهمية تعزيز مسار العلاقات)، وإنما يقوم هذا الافتراض، سيئ الظن، المدّعى هنا صحّته، أنّ دولةً يَطلُب رئيس الأركان الإسرائيلي زيارتها فيجري الترحيب به، ويُطلَب منها نشر منظومة رادارات إسرائيلية فوق أراضيها فتستجيب، يصير مؤكّداً أنّها تلبّي طلباً بإقالة مسؤولةٍ عن هيئةٍ ثقافية، تتلقّاه بعد ستة أيام من واقعةٍ ليست هيّنة الوقْع على دولة الاحتلال، أنّ هذه الوزيرة السابقة، من العائلة الحاكمة، لا يرضيها وجود سفيرٍ لإسرائيل في بلدها.
أما وأنّه مستحقٌّ تقدير الشيخة مي ورمي ألف وردة ووردة إليها، لموقفها الوطني والأخلاقي، ولاتّساقها مع نفسها مثقفةً غيورةً على بلدها وشعبها وأمتها، وقد عُرفت في أثناء تولّيها منصب وزيرة للثقافة والإعلام (2008 – 2010) ثم وزيرة للثقافة (2010 – 2014) بما يُشهَد لها على حسٍّ ثقافي رفيع، وعلى دعمها مشروع فلسطين الثقافي، أما وأنها أكّدت، في غير مناسبةٍ ومناسبة، هذا كله وغيره، أما وأنها في غضون رئاستها هيئة البحرين للثقافة والآثار تصدّت لمشروع غير خفيّ البواعث والأغراض، تشييد مستثمرين يهود حياً يهودياً في المنامة، أما وأنّ الإحاطة بما في الشيخة مي عملٌ شاقّ، فإنّها في سيرتها ومسيرتها دلّت على الوجه الأصفى والأنقى للبحرين، البلد الذي لُقِّب أهلوه في طوْرٍ غير بعيد "فلسطينيو الخليج"، واستجاب أغنياؤه في 1924 لنداءٍ من أجل التبرّع لترميماتٍ في المسجد الأقصى، وشُكّلت فيه في 1939 لجنة لرعاية أيتام فلسطين، لتكون الواجهة التي أمكن قيامها لدعم ثوار فلسطين، في مواجهة اعتراض الإنكليز المستعمرين، ثم توالت وقائع انتصار ناس هذا البلد العربي، الغنيّ بانتساب أبنائه إلى أمتهم، مع فلسطين، بالمظاهرات الغاضبة ضد قرار تقسيم فلسطين، وبالتبرّعات لها، وأيضا بتطوّع مقاتلين في صفوف المقاومين الفلسطينيين.
عندما لا تُصافح مي آل خليفة سفير إسرائيل في بلدها اعتراضاً على وجوده، فإن الخبر ليس هنا، وإنما في السقوط الأخلاقي للحُكم عندما يُعاقبها على موقفها هذا، وعبّرت عنه باحتجاجٍ شخصيٍّ، بالغ الهدوء ومن دون إعلام (طلبت من السفارة الأميركية عدم توزيع أي صور لحادثة عدم المصافحة). لكنّ إسرائيل نظرت بقلقٍ إلى أنّ سيدة مسؤولة عن مؤسّسة تنشيط ثقافي وعن الآثار والتراث، أي عن تاريخ البلد وذاكرته، ترفض سفيرَها. هذا ليس مريحاً أبداً لدولةٍ محتلة، تستهدف ذاكرة شعب فلسطين وتاريخها، فكان طلبُها إقالة الشيخة مي، فاستُجيب لها .. المرجوّ أن تبقى السيدة ذات المناقبية العالية في موقعها مديرةً لمركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، وقد صدَقت في تغريدتها لشكر مئات آلاف العرب الذين ضجّوا بالتضامن معها وتزجية التحيات إليها "وحدها المحبّة تجمعنا وتقوّينا".
لماذا اختارت الدولة العميقة، دونالد ترامب؟
13 نوفمبر 2024