هذه المرة لا لوم على فصائل المقاومة في غزة، لا على الجهاد ولا على حماس ولا غيرها من الفصائل المسلحة. حرب فرضت عليها وهي، استمرار للحرب على جنين ونابلس والقدس. إننا نرفض الأصوات التي تحمل الفصائل المسؤولية بحجة المعاناة الإنسانية، وكأن غزة لا تعاني من الحصار والتجويع والقتل والاغتيالات والقصف لمدة 15 سنة متواصلة، وذنبها الوحيد أنها لم ترفع راية الاستسلام، ولم تتقبل كتائب التنسيق الأمني، ولم تسمح لقطعان المستوطنين باجتياحها يوميا كما تجتاح بقية المدن والقرى الفلسطينية في القدس وبقية الأرض المحتلة.
إنها المنطقة الوحيدة التي فككت بالقوة 13 مستوطنة يسكنها 8600 مستوطن بعد إعلان فشل «عملية أيام الغضب» التي قادها إرييل شارون، وفشل في إسكات ضرب الصواريخ الذي وعد بها فقرر الانسحاب الذليل في أغسطس 2005 أصيب بعدها بسكتة دماغية شلته إلى أن مات.
إن من يضع اللوم على الفصائل هذه المرة، بوعي أو دون وعي، يجيّر تحليلاته لصالح الأوسلويين، الذين لم يحموا قرية ولا مدينة ولا شارعا في الضفة الغربية بما فيها القدس. فهل المطلوب أن يلملم رجال ونساء المقاومة سلاحهم، على بدائيته، ويدخلوا في بيت طاعة قوات الأمن الوقائي ليحموا أنفسهم وعائلاتهم من الاجتياح. وهل حمى الأمن الوقائي جنين ونابلس والخليل والأقصى من الاجتياحات المتواصلة. كم شابا استشهد في الضفة الغربية منذ بداية العام، وكم بيتا هدم وكم طفلا اعتقل وكم شابا اقتيد من بيته في جنح الظلام؟ أليس هذا هو البديل لو رفعت كتائب المقاومة في غزة راية الاستسلام، وأدخلت الأوسلويين ومنسقيهم الأمنيين شوارع غزة؟ من الذي يعتقل أو يسهل اعتقال المناضلين في نابلس وجنين ويعبد وبيتا وسلواد واليامون ودورا والخليل؟ اقرأوا معي ما قاله المراسل العسكري عمير بوحبوط حرفيا عن عملية استهداف الشهيد إبراهيم النابلسي: «السلطة الفلسطينية قدمت الناشط إبراهيم النابلسي على طبق من ذهب لقوات جيش الدفاع، حيث تم تحييده بسهولة بعد معلومات دقيقة وصلت عن مكان اختبائه». هذا في مدن الضفة الكبيرة والعريقة. فكيف سيكون الوضع في قطاع غزة المكشوف ظهرا وبطنا دون جبل أو واد أو دهاليز لاسواق قديمة؟ الحقيقة أن الدم الفلسطيني موضوع المنافسة بين جميع أشكال الطيف الصهيوني كل يحاول تحسين وضعه الانتخابي بمقدار ما يلغ في الدم الفلسطيني. فهل الرد يكون بالخنوع والاستسلام؟
اشتداد عود المقاومة
من يزور رام الله يشعر بشيء من الإحباط لانكفاء الغالبية من الناس عن العمل السياسي والجماهيري والنضالي. وفي كل مرة تكون هناك دعوة لوقفة احتجاجية أو مظاهرة تضامينة لا تستطيع كل الفصائل أن تجمع 200 شخص. وقد شاركت في عدد من هذه الوقفات وأصبت بنوع من الإحباط. فالفصائل العريقة لم تعد حقيقة تمثل الشارع الفلسطيني، وبعضها لا نسمع منه أو عنه إلا عند إصدار بيان «يطالب المجتمع الدولي بالتدخل» أسوة ببيانات سلطة أوسلو ووزرائها. وأكاد أجزم أن «المبادرة الوطنية» ورئيسها مصطفى البرغوثي، تستطيع أن تجمع أكثر من بقية الفصائل مجتمعة، ما عدا حركتي حماس والجهاد، لأن أنصارهما لا يعرضون أنفسهم للظهور المجاني، الذي قد يعرضهم لخطر محدق. وفي وقفة احتجاجية ضد زيارة بايدن لم يزد العدد عن 80 شخصا، من بينهم عدد كبير من جماعة المخابرات وربعهم من وسائل الإعلام. لكن لا ننسى أن هذه رام الله العاصمة التجارية والمالية والإدارية ومقر السلطة وأجهزة المخابرات. كل شخص معارض للسلطة تتم متابعته وتضييق الخناق عليه وإغلاق المنافذ الوظيفية أمامه وتعطيل معاملاته، وإن تمادى كثيرا لقي مصير نزار بنات. السلطة نجحت منذ سنوات فياض- دايتون- توني بلير أن تحيد الآلاف وتضمهم إلى الكادر الوظيفي في الأجهزة المختلفة، وتثقلهم بالديون والأقساط الشهرية، حتى يكون همَّ الشخص راتبه الشهري، وتسديد فوانيره وإرسال أولاده إلى المدرسة. هذه هي النتيجة نراها بعد سنوات السلطة الحالية. لكن هذا المشهد لا ينطبق على كل فلسطين المحتلة، فالقدس الخارجة عن سيطرة السلطة ينتصر فيها المقدسيون في معاركهم كلها من معركة البوابات إلى معركة باب المغاربة إلى معركة جنازة الشهيدة الكبيرة شيرين أبوعاقلة. في جنين تقف المقاومة شامخة قوية ويستعرض رجالها قوتهم في وضح النهار. ولحقت بها نابلس وخرجت عن بيت الطاعة. أنظروا إلى جنازة الشهداء الثلاثة لتعرفوا أن المدينة بكاملها سارت وراء الجنازة متحدية الاحتلال وعيونه وأذنابه ومنسقيه الأمنيين. لقد خرجت مدن نابلس وجنين والخليل وقلقيلية عن سيطرة قيادة أوسلو، وتلعب كتائب الأقصى دور بيضة القبان، لأنها لم ترض بالذل والهوان اللذين تمثلهما السلطة الرسمية التي يأكل بعضها بعضا في نزاع على المناصب، واسألوا أهل العلم متى زار رئيس السلطة نابلس أو جنين أو قلقيلية أو الخليل؟
جيل جديد لا يعرف الخوف ويجد نفسه مواطنا من الدرجة الثانية والثالثة لا يملك خيارا إلا الانفجار في وجه الكيان المحتل
فلسطين الآن تنتفض في كل مكان، ليس فقط في الضفة الغربية والقدس، بل في الداخل الفلسطيني الذي يشهد حراكا وطنيا كبيرا متواصلا، رغم الخلافات بين الطبقة السياسية التي تعمل تحت جناح المنظومة الصهيونية، وتتنافس في ما بينها حول مواضيع ثانوية بعيدة عن البرنامج الوطني الشامل الملتقي مع نضالات الشعب الفلسطيني في كل مكان والذي يؤكد وحدة الشعب ووحدة الأرض ووحدة القضية بسرديتها التاريخية. فعندما يأتي رئيس بلدية الرملة لمسؤول عشيرة فلسطينية في انتفاضة 2021 ويطلب منه أن يحمي المدينة من الانتفاضة، فيرد عليه رئيس العشيرة الفلسطينية: بشرط واحد. ما هو هذا الشرط؟ قال رئيس البلدية؟ «ألا يدخل مستوطن واحد من خارج المدينة وإلا سنقف صفا واحدا في مواجهته»، يرد الشيخ. رئيس البلدية يقبل الشرط ويتسلم الشباب الفلسطينيون حماية المدينة، لا قوات الأمن ولا الجيش ولا المستوطنون. إنها بداية التحول الكبير.
الأمور بدأت تتغير، هناك حراك كبير.. هناك همهمات وزمزمات تحت السطح توشك أن تنفجر. الكيان الصهيوني ليس لديه إلا آلة القتل، لكن من يقود سيارته في الطريق السريع رقم 6 من عين شمس إلى حيفا، ويمر على هذه المدن العربية الضخمة ذات المآذن الشاهقة، سيدرك أن المشروع الصهيوني يعيش خطرا وجوديا ولم يبق على نهايته إلا المسافة الزمنية، عندما يلتف الفلسطينيون حول برنامج نضالي واحد على أرضية المقاومة، بكل أشكالها وتحت قيادة واحدة صادقة شريفة مناضلة لا تساوم ولا تقامر ولا تهادن، تستند إلى شعبها ليحميها، ولا تنصاع لإملاءات عدوها لحماية مكاسبها، ولا تتذلل على عتبات أنظمة الخنوع العربية القريب منهم والبعيد، يومها سنشاهد بداية تفكك هذا الكيان المركب بطريقة اصطناعية.هذا كيان بني على القتل والمجازر، هناك مواجهات في غزة تستمر أياما أو أسابيع. لكن هناك مواجهات واعتقالات وجرائم وهدم وتنكيل في الضفة الغربية والقدس، لا تتتوقف لا ليل ولا نهار تقوم بها قوات الأمن والجيش والمستوطنون والشاباك والمستعربون. وهناك نظام فصل عنصري يفرض عنوة على مليوني فلسطيني وأكثر في فلسطين التاريخية، ويتمنى أن تنشق الأرض وتبلعهم. لا يستطيع قتلهم جميعا ولا يستطيع طردهم جميعا، ويحاول الآن أن يشق صفوفهم ويضربهم ببعضهم بعضا ويسهل انتشار المخدرات والجريمة المنظمة بينهم، كي يتمكن من السيطرة عليهم. لكنه في النتيجة لن ينجح لأن جيلا جديدا لا يعرف الخوف ويجد نفسه مواطنا من الدرجة الثانية والثالثة لا يملك خيارا إلا الانفجار في وجه هذا الكيان.
وفي نهاية تعليقنا على حرب غزة الأخيرة نقول: عندما يترابط النضال الفلسطيني في غزة ضد الحصار والتجويع والاستهداف، ومع النضال في القدس والضفة ضد الاحتلال والاضطهاد ومصادرة الأراضي وهدم البيوت واعتقال الآلاف، مع النضال في فلسطين التاريخية ضد نظام الأبرتهايد والتمييز والتهميش، وعندما تفرز هذه النضالات قيادة موحدة واعية تعرف ماذا تريد وكيف تحقق ما تريد يبدأ العد العكسي لهذا الكيان الغريب، الذي زرع عنوة في منطقة تلفظه تاريخيا وجغرافيا وسياسيا واقتصاديا رغم أنف المطبعين العرب والمستسلمين الفلسطينيين.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي