كتاب جديد لآدم راز وثّق رسائل موجهة لبن غوريون عُثر عليها في أرشيفَي الدولة والجيش

"المأساة الشخصية لسامي سعادة": فصول جديدة من المعاناة الفلسطينية زمن النكبة (2-2)

حجم الخط

بقلم: شيرين فلاح صعب


في رسالة أخرى بتاريخ 16 تشرين الثاني 1949 يصف محاولاته اليائسة من أجل العودة إلى الشقة في شارع عباس والظلم الذي تعرض له. "حسب تعليماتكم الأخيرة قمت بالاتصال مع السيد موشيه ييتح، الموظف المسؤول عن شؤون العرب في حيفا. وقد قال لي بأنه كتب لكم حول قضيتي وهو ينتظر تعليماتكم. وبهذه المناسبة أريد الإشارة مرة اخرى الى حجم الظلم والضرر الذي تعرضتُ لهما أنا وممتلكاتي نتيجة الأفعال البربرية التي ارتكبتها المجموعة التي تستخف بالقانون وبأوامركم".
حسب المواد التي عثر عليها راز فان موشيه ييتح، الذي كان يعمل في مكتب وزارة الأقليات في حيفا، في الحقيقة هو عالج طلب سعادة ولكن بدون فائدة. "سامي سعادة له عقد بالشقة. وهو يواصل دفع إيجار الشقة التي لا يمكنه العيش فيها. الغزاة يستمرون في العيش في الشقة بدون دفع إيجار"، كتب للمسؤولين عنه. من غير المعروف اذا كان علاج ييتح قد ساعد. تظهر جميع الدلائل أن سعادة لم يحصل مجدداً على ملكية الشقة. لم توفر الأرشيفات الإجابات على أسئلة كثيرة، ومن بينها اذا كان سعادة قد ربح الدعوى التي قدمها، أم أنه عاش مشرداً في الشوارع كما كتب في رسائله.
وقالت دلاشة إن مصادرة الأملاك الفلسطينية كانت عملية متعمدة استهدفت نقل رسالة. "نقلت المؤسسة الإسرائيلية الفلسطينيين من سكان حيفا رغم أنفهم الى وادي النسناس، وقد أصبحوا غائبين، أي أنهم فقدوا العلاقة مع أملاكهم. شاهد سعادة والفلسطينيون الآخرون الذين لم يهربوا كيف أن المبنى الاجتماعي، الاقتصادي والثقافي، الذي عرفوه يتفكك. ورغم النكبة التي مروا بها إلا أنهم قرروا البقاء رغم كل شيء. من المهم الذكر بأن الدولة كانت في عملية إنشاء ولم يكن احد يتوقع بأن عدداً كبيراً من الفلسطينيين سيبقون فيها. الافضلية التي أُعطيت في حينه لتخصيص "املاك الغائبين" للدولة وللاكثرية اليهودية، لعبت دورها في عملية تشكل واقامة الدولة".

ضربتان
رائد سعادة (60 سنة) الذي يعيش في شرقي القدس، قال في محادثة مع "هآرتس" إنه عرف للمرة الاولى عن الرسائل التي ارسلها والده لبن غوريون من المؤرخ راز، الذي أطلعه على المواد التي عثر عليها. "ما قاله لي أبي هو أنه كان يعيش في بيت في حيفا وأنهم نقلوه الى شارع عباس. هو لم يقل لي عما حدث داخل البيت، ولم يتحدث عن الرسائل، وأنا لم أعرف كيف كانت حياته في حيفا بعد الحرب. يجب أن نفهم أن أبي تلقى ضربتين. الأولى كانت احتلال حيفا. والثانية كانت اكثر إيلاماً، وهي أن عائلته تفككت لأن زوجته وأولاده بقوا في لبنان. خلال السنين طمح الى توحيد العائلة من جديد. هذا ما كان يشغله طوال الوقت. تفكك الكثير من العائلات الفلسطينية في أعقاب 1948. اضطر أبي الى اتخاذ قرارات مصيرية في ظل التغييرات التي فرضت عليه، الأمر الذي أدى الى التشويش، حتى داخل العائلة. واذا كان فقدان البيت والشوق لعائلته لم يكن كافياً، فان شركة النفط التي كان يعمل فيها تم اغلاقها في اعقاب الحرب. تغيرت مكانته وفقد ما لديه. حاول أبي في بداية الخمسينيات لم شمل العائلة من جديد، ولكن ذلك لم يحدث. وبسبب اختلاف في الآراء والامور العائلية لم ينجح أبي في توحيد العائلة، ولم يستطع التأقلم في لبنان. هو لم يجد نفسه هناك. في نهاية المطاف انفصل عن زوجته التي بقيت مع الأولاد في لبنان. بعد ذلك حصلوا على جوازات سفر لبنانية".
بعد لبنان انتقل سعادة الى الاردن ووجد عملاً في فرع شركة النفط ذاتها التي عمل فيها في حيفا. "توجد عندي حقيبة فيها صور والدي عندما كان يعمل في الأردن. وحتى توجد له صور مع الملك حسين"، قال الابن.
في العام 1960 تزوج سعادة من جوليا، وهي فلسطينية من مواليد بيت جالا، كانت تعمل خيّاطة. وقد تعرف عليها في عمان. وُلد لهما أربعة أولاد من بينهم رائد. الفصل العائلي الجديد جلب معه تغييرات أخرى. قال رائد إنه في بداية الستينيات اشترى والده فندقاً في شرقي القدس، "الجيروزاليم هوتيل" وانتقل للعيش في المدينة. بالصدفة شاهد اعلاناً في صحيفة يعرض فندقاً للبيع في المدينة. أطلع والدتي على الاعلان وهي شجعته على الشراء. ولكن لم يكن لديه المال الكافي، ولذلك توجه الى عمي الذي كان يعمل في حينه في العراق، واتفقا على شراء الفندق معاً. "جيروزاليم هوتيل" موجود حتى الآن بملكية عائلة سعادة، ويقوم رائد بادارته مع شقيقه ومع ابنة عمته.
الرسائل التي أرسلها سعادة لبن غوريون تتميز باسلوب مؤدب ومحترم. يصفه الابن بأنه انسان هادئ ومتسامح وحريص على مظهره الخارجي. "دائما كان يرتدي بدلة من ثلاث قطع. حتى عندما كنا نذهب الى البحر كان يحرص على الملابس الرسمية. كل من يعرف سامي سعادة يتذكر التقدير الذي حصل عليه من محيطه القريب، اشخاص توجهوا اليه وطلبوا منه النصائح، وهو كان يعرف كيفية الاصغاء والتفهم وايجاد الحل لكل مشكلة. كان متمكناً جداً من اللغة الانجليزية. عندما كنت في المدرسة لم اكن بحاجة الى القاموس لأنني كنت استعين بوالدي وهو ساعدني في حل كل سؤال. كان يحب الكتابة وعرف كيف يكتب. وطوال حياته كان يرسل رسائل للناس".
من غير الواضح لماذا اختار سعادة إخفاء ما حدث في الشقة في شارع عباس والرسائل التي أرسلها لبن غوريون عن أولاده. "والدي لم يكن شخصاً يتحدث عن أحاسيسه أو عن الأمور التي تضايقه. وقد احتفظ بهذه الأمور لنفسه"، قال رائد. "ربما أخبر والدتي عما حدث في الشقة في حيفا. ولكني لم أعرف في أي يوم عما يشعر به في الحقيقة".
الابن البكر لسعادة رفيق، (78 سنة)، وهو يعيش الآن في اليونان، طلب في مرحلة معينة أن يعرف مصير البيت الذي عاشت فيه العائلة. وافق الوالد على السفر مع رفيق الى حيفا، وانضم رائد للرحلة. "كان هذا بعد بضع سنوات على حرب الأيام الستة. أعطوني كاميرا لتصوير البيت، لكني قمت بتشغيل الكاميرا بشكل غير صحيح وخربت الفيلم"، تذكر. "لم نجد البيت ولم يقل والدي الكثير بعد هذه الرحلة".
في بداية الثمانينيات مرض سامي سعادة بمرض الباركنسون. بعد سبع سنوات، في سن 76 توفي. عاشت زوجته جوليا طويلاً وتوفيت في هذه السنة. "أعتقد أن أبي توفي وهو يشعر بالغضب"، قال رائد. "لأنه في تلك الفترة قتلت أخت لي في الحرب الأهلية في لبنان. اشتد المرض مع مرور الزمن، والأدوية التي تناولها سببت فشلاً كلوياً، الأمر أدى الى وفاته. في الفترة الأخيرة في حياته نسي الكثير. مر والدي بحياة قاسية بعد النكبة. هو لم ينجح في الحفاظ على عائلته وبيته. ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة السير الى الأمام والحفاظ على تجمع العائلة بقدر الإمكان. وقد فعل ذلك بفضل شخصيته اللطيفة وذكائه.
بعد موت الوالد عاد الابن إلى حيفا، في هذه المرة وجد البيت في شارع عباس. "عاش والدي هنا فترة طويلة، ومشاهدة البيت كانت مهمة جداً بالنسبة لي"، قال رائد. "هذا البيت جزء من إرث عائلتي، جزء من هويتي".

عن "هآرتس"