معاريف : من قال إن إسرائيل يمينية أو يسارية ستتنازل عن ذرة من حدود 1967؟

ران-ادليست.jpeg
حجم الخط

بقلم: ران أدليست

حقيقة عسرة على الهضم: إسرائيل مجتمع يُطبّع الكذب في صالح حقيقة بديلة ولحظية، وكل شيء نسبي، وأقسم لك بقبر أمي. المشكلة أن هذا ليس نمطاً سلوكياً تثبت، بل مسيرة زاحفة وقاضمة. والنتيجة، أن الكذب بوقاحة لا عار فيه بل فخار. انظروا كيف خوزقته وخوزقتها وخوزقتهم وخوزقت كل النظام.

 

المشكلة أن دولة لا تقوم على أساس قول الحقيقة بل تغرق في الكذب، تكف عن أداء مهامها حرفياً. في النهاية، سينفد الماء من الصنبور، وإذا ما ضخ فسيكون ساماً، وإذا ما خدع المسؤولون الجمهور عن المياه، فسيكون فضائحيا.

 

بدلاً من انتخابات 2022 لنا اليوم (تقريباً) 2022 انتخابات تؤكد حياتنا. ولا يدور الحديث عن ترهات سياسيين. بسموت سخيف، وامسلم هازئ، وميري ريغف همممم… لدرجة أن الجمهور بات يعرف أنه يشاهد سيركاً. غير أنه بخلاف الأكاذيب قليلة الحياء، عند الحديث عن الحقائق التي هي أسس الوجود، ثمة تخوف على الوجود نفسه. ولا حاجة لحفر الكثير.

 

مصدر أمراض دولة الذين يذرون الرماد في العيون ويسرقون العقول هو النزاع اليهودي – الفلسطيني ابتداء من العام 1948 حتى اليوم، وجرائم الحرب المرافقة لها. لا سبيل لأن نجتاز مسار العوائق هذا بنجاح دون النجاح في القفز من فوق العائق الأول الذي هو حرب الاستقلال وملحقاتها.

 

إلى جانب الكفاح (العادل، اهدأوا) في سبيل الدولة واستقلال الشعب اليهودي، بقي جرح نازف حتى يومنا هذا، وإلى جانبه فرصة للشفاء. وإن لم يكن شفاء كاملاً، فالتجلط خيار أيضاً. الميل للكبت ونسيان صدمات الماضي “طبيعي” لدى المنتصر، وأقل طبيعية لدى المهزوم. وبخاصة عندما يكون النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني في ذروته وهو يفتح جراح الماضي. السبيل الوحيد لجعل صدمة النكبة رافعة للتسوية هو أن يعترف الوسط اليهودي بأسبابها وملابساتها. لكن أحداً لن يحاكم أحداً. المشكلة هي في الاعتراف بالحقائق وحتى الاعتذار عن هذا الذي هو ترف المنتصرين.

 

في الزمن الأخير جرت محاولتان لرواية الحقيقة في قضية الطنطورة (48) وكفر قاسم (56). فيلم ألون شفارتس عن أحداث الطنطورة، ووثائق كفر قاسم التي كشفها أدام راز، تثبت أن جرائم حرب ارتكبت في ظل الحرب على احتلال البلاد وتثبيت أمنها. أحداث الطنطورة وقعت في الـ 48 وفي الحرب التي كانت إما نحن أو هم. أما المذبحة في كفر قاسم في 56 فارتكبت في سياق دولة قانون ولا تزال إسرائيل تكافح في حينه في سبيل حياتها، وأدارت بعد المذبحة إجراءات قضائية، وإن كانت شوهاء.

 

دون الدخول في مسألة وجود مذبحة في الطنطورة أو عقاب متملص في كفر قاسم، الواضح أن الجمهور الإسرائيلي ليس ناضجاً لمواجهة الحقيقة حتى عندما يتلقى صفعة في وجهه. في 2016، بعد 60 سنة على مذبحة كفر قاسم، أوضح يريف لفين في الكنيست بأن “مذبحة كفر قاسم كذبة”. وأنا أميل للاتفاق مع الزعم بأن انتصاراً عربياً كان سينتهي بآخرة يهودية، ولا يزال، يفترض بنا أن نعترف بمشاعر الطرف الثاني وبالأفعال نفسها. ليس لأننا انتصرنا فقط، بل أساساً عقب التفوق الأمني الواضح اليوم. لا يدور الحديث عن اختبار شجاعة، بل عن تصميم أداة وعي سياسي تسمح بالخروج من الدائرة السحرية لكبت لا يتوقف عن النزف.

 

ولتهدئة الأرواح التائهة: لن تتنازل أي حكومة في إسرائيل، ولا حتى حكومة اليسار المتطرف عن ذرة تراب في حدود 1967. مشاكل الصدمة المتبادلة اليهودية والفلسطينية داخل الخط الأخضر يفترض أن تعالج بجملة وسائل، أساساً اقتصادية، وسياسية وثقافية. الأساس هو التوقف عن العيش في الكذب.

 

خمس الجبهات

 

الكذبة الأخطر منها جميعاً هي زعم الدولة بأن الفلسطينيين يرفضون كل تسوية. الحقيقة: من ترفض جملة المعاذير هي حكومات إسرائيل، للسبب البسيط بأن التسوية معناها تنازل (انسحاب) ما. باستثناء حكومات بيرس التي ابتكرت مساراً التفافياً (أوسلو)، ورابين (الذي أطلقت النار عليه) وأولمرت (الذين أدين). من خلال فك الارتباط، وفّر شارون مهلة أخرى للاستيطان، أما باراك – الذي حاول العزف أيضاً على عرس الدم وعرس السلام في وقت واحد – فقد أنهى طريقه مع الكذبة الأكثر أذى: لا شريك. أراد إيهود باراك الخروج مؤقتاً من الحفرة السياسية التي هبط فيها بعد فشل المحادثات في كامب ديفيد، غير أن الجيش وجهاز الأمن اشتروا هذه الذريعة (بحماسة) كحجة تبرر الحروب الصغيرة وعديمة الجدوى التي أديرت منذئذ وحتى اليوم، وهيا إلى المعارك ما بين المعارك في كل الجبهات.

 

بنيامين نتنياهو كوكيل للفوضى، الذي يزدهر على انعدام اليقين الأمني، الشخصي والقومي، رفع مستوى اللاشريك إلى مستوى أنهم رافضو مفاوضات وإرهابيون في آن واحد، واشترى هدوءاً لدى المستوطنين، الذين يرون في المفاوضات خيانة. تقنية المنظومة هي الحرب ضد الإرهاب بواسطة الاستفزازات والتعظيم لكل حدث إلى مستوى التهديد الوجودي. يدور الحديث عن أن كل أذرع الأمن مشاركة في الحرب ضد الإرهاب في كل الجبهات، وذلك لأنها طبيعة الكلاب الهجومية. من الخير وجود جيش مهاجم لنا، ومن الخير الأقل حين يخدم وبشكل غير مباشر هدفاً أيديولوجياً وسياسياً ليس عليه إجماع.

 

كي يثبت بأننا نتعامل مع إرهابيين جميعاً، من السلطة وحتى “الجهاد”، دهور نتنياهو المنطقة كلها إلى بؤرة توتر دائمة في خمس جبهات (لبنان، سوريا، الضفة، القطاع وإيران بالطبع، التي تقف من خلف كل عملية). الاستنتاج السياسي: توجد عملية أو تهديد بعملية، ولا توجد مفاوضات. التقط “الشاباك” حديثاً لأحمد الذي قال إنه سيقتل مئة يهودي؟ حماس تقيم برج رصد يطل على غرف نوم سكان “نتيف هعسرا” – الويل!!! والآن يريدون أن يديروا مفاوضات مع دم على الأيدي؟ هذه سياسة الكذب وإخفاء الحقيقة لدى نتنياهو، وهي لا تختلف في جوهرها عن تقنية إخفاء الضريبة. سياسة متجذرة بدهاء من خلال شركات فرعية تقفز من ملجأ ضريبة (كذب) إثر آخر. للأمريكيين تعبير عن أعمال من هذا القبيل: غيزلايتنغ (لا أجد له رديفاً بالعبرية، قد يكون زوغ البصر أو الغمز). وثمة مدماك داعم كذب هدام بقدر لا يقل، وهو الجهاز القضائي. قبل بضعة أسابيع، قضت المحكمة العليا بأن “البؤرة الاستيطانية “متسبيه كرميم” التي أقيمت على أرض خاصة فلسطينية لن تخلى لأنها أقيمت ببراءة عقب خطأ”. أفترض وآمل أن كل هيئة أخرى من العليا كانت ستقضي بشكل مختلف. يقال إن في القدس قضاة. يتبين أننا بقينا مع ادعاء بالسذاجة على مستوى ذريعة كذب لمجرم صغير. وسابقة بالطبع: في الضفة نحو 3 آلاف مبنى غير قانوني آخر بني “ببراءة” على أرض فلسطينية خاصة بسبب “خطأ” الدولة. كذبة المحكمة العليا تدعم كذبة المستوطنات كي تسمح بتبييضها في المستقبل. فهل يعرف أحد ما في الجوار محكمة عدل عليا ودية أكثر للحقيقة؟

بقلم: ران أدليست