منذ سنوات وقطاع غزة، لا يتمكن من التقاط أنفاسه من أثر الحروب المتتالية عليه، والاحتلال الإسرائيلي ماض في تدميره، منذ تطبيق خطة فك الارتباط عام 2005، والتي شملت انسحاب قوات الاحتلال من التواجد المباشر على أرض القطاع وإخلاء المستوطنات وتفكيكها، مع بقاء الحصار المطبق والسيطرة الجوية والبحرية والبرية المشددة.
أكثر من مليوني فلسطيني يحاصرهم الاحتلال منذ خمسة عشر عاما، وكأنه حكم عليهم بالموت بأشكال وطرق متعددة: من لم يقتل بغارة جوية، معرض للموت تدريجيا بسبب الحصار وتداعياته، من فقر وانقطاع الكهرباء وتلوث المياه، ومنع إدخال الأدوية والأغذية ومواد الإعمار، وضرب مقومات التنمية والحياة، وصعوبة الحصول على الخدمات الأساسية والعيش بكرامة ومنع السفر.
فغزة المطلة على البحر والسماء، أغلقت عليها إسرائيل كل المنافذ فلا مجال ولا ملاذ ولا حصانة لحياة البشر، حتى مؤسسات الأمم المتحدة ومدارس وكالة الغوث لم تحم من التجأوا إليها هربا من القصف. وعلى مدار الحروب المتتالية على غزة، لم تحترم إسرائيل مبادئ حقوق الإنسان، ولم تلتزم بمسؤولياتها الملقاة عليها بموجب القانون الدولي بحماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، وعدم تعريض الأطفال والنساء وكبار السن لأي أذى، استنادا للقانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، واتفاقية حقوق الطفل، فهي ما زالت تتفنن بأسماء عملياتها العدوانية، وتستعرض من خلالها مقدرتها العسكرية على التدمير والإبادة، دون مراعاة لأدنى معايير الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان.
أدّى عدوان 2008 الذي أسمته إسرائيل "الرصاص المصبوب"، إلى استشهاد أكثر من 1430 شخصا، منهم أكثر من 400 طفل، و240 إمرأة، وأكثر من 5400 جريح. تلاه في عام 2012 عدوان "عامود السحاب"، استشهد خلاله نحو 180 شخصا، منهم 42 طفلا و11 إمرأة، ونحو 1300 جريح، ثم "الجرف الصامد" في عام 2014، واستمر لأكثر من 51 يوما، وأدى إلى استشهاد 2322 شخصا معظمهم من الأطفال والنساء، و11 ألف جريح، ثم تلاه عدوان 2019، وعدوان عام 2021، الذي أطلقت عليه اسم حارس الأسوار أو سيف القدس بلغة المقاومة، وأدى إلى استشهاد أكثر من 250 شخصا، وأكثر من خمسة آلاف جريح، والعدوان الأخير الذي أسمته "الفجر الصادق"، والذي أدى إلى استشهاد نحو 50 فلسطينيا، 45% من ضحاياه هم من الأطفال. وغير ذلك من محاولات كسر ظهر غزة وأهلها، بالقتل والتدمير الكلي للبنية التحتية فيها، من المباني والأحياء السكنية، والمنشآت الاقتصادية والمشاريع والأراضي الزراعية، واستهداف محطات تحلية المياه ومحطات الكهرباء.
يتضح أن وقف إطلاق النار بعد كل عدوان، لا يعني انتهاء المأساة والمعاناة الإنسانية الناتجة عن الحرب والحديث عن أعداد الشهداء والجرحى فقط، لا يعكس الحقيقة بكامل أوجهها، إذا لم تبين تداعيات الحرب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والنفسية، والصدمات التي يتعرض لها أهل القطاع نتيجة العدوان المتكرر عليه.
تلك الإحصائيات من الخسائر البشرية، هي في الواقع تاريخ مختزل بأرقام، لبشر كانوا جزءا أصيل من مجتمعهم ووطنهم، هؤلاء لم يخلقوا عبثا، لكي يتحولوا إلى مجرد أرقام في صفحات السجل المدني والتقارير الإغاثية. لذلك لا بد من توثيق قصص شهداء الحرب، وأيضا شهادات وروايات ضحايا العدوان من الذين نجو بأعجوبة من العدوان، لكي يرى العالم الوجه الحقيقي المشوه لإسرائيل والملطخ بدماء الأطفال والأبرياء.
ولكي لا تترك غزة وحيدة، تلملم جراحها، وتجمع أشلاء نفسها، فالواجب الوطني والإنساني والأخلاقي يقتضي أن تبقى التغطية مستمرة، من كافة وسائل الإعلام، و أن لا تهدأ مواقع التواصل الاجتماعي تضامنا مع غزة، كي يرى العالم الكارثة الإنسانية بكافة أبعادها، من عمليات هي أقرب للإبادة الجماعية، وانعدام الأمن الغذائي والإنساني والمجتمعي ودمار البنية التحيتة. وإجبار العالم على الالتفات لقطاع غزة ومأساته.
فحملات التنديد لن تغير الواقع، والمطلوب موقف شجاع حقيقي من المجتمع الدولي، وتوفير حماية دولية فورية عاجلة للشعب الفلسطيني، ولقطاع غزة وأطفاله، والقيام بكل الخطوات المطلوبة والإجراءات القانونية للتوجه لمحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، وسار أدوات القانون الدولي المتاحة بما فيها محاكم الاختصاص الجنائي لدى بعض الدول التي يمكنها ملاحقة ومحاكمة مجرمي الحرب، لملاحقة قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين على ما اقترفت أيديهم واسلحتهم والقوات التي تأتمر باوامرهم من جرائم حرب باتت تتكرر في كل عدوان ، خصوصا بعد اعتراف دولة الاحتلال بمقتل خمسة أطفال من عائلتي نجم وابو كرش بغارة جوية أثناء زيارتهم لقبر جدهم في مقبرة الفالوجا في جباليا.
فالمعاناة لا تنتهي بتوقف العدوان، أو بتقديم المساعدات الإنسانية رغم ضرورتها، لأن قضية قطاع غزة ليست مسألة إغاثية، والخسارات الفادحة والحسرات على من فقدوا لا تعوض بثمن ولا بالتسهيلات المزعومة والوعود المعسولة، ولا بحملات التنديد الدولية التي درجت على لوم الضحية أكثر من لوم المجرم.
غزة تريد أن تعيش، والمطلوب وضع حد للاعتداءات العسكرية عليها، ورفع الحصار عنها، وتمكين القطاع من الاستفادة من الثروات الطبيعية، بحرية ودون أي تهديد على حقهم بالحياة وبكرامة، فالأمن الدولي والجماعي في العالم، لن يتحقق في ظل وجود هذه الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان.
آن الأوان لتوحيد الخطاب وتجميع الصف الفلسطيني، والحراك من أجل أن يتوقف المجتمع الدولي عن ممارسة ازدواجية المعايير، ومطالبته بتحمل مسؤولياته بإحلال السلام والأمن الدوليين، وتطبيق العدالة الدولية بمحاسبة ومسائلة اسرائيل، على كل جرائمها بحق الإنسانية، وعلى العالم أن يدرك أن الوضع الإنساني الكارثي بقطاع غزة، واستمرار الإعتداءات العسكرية المتتالية عليه، وآثارها المرعبة، سيحول كل المنطقة إلى قنبلة موقوته قابلة للانفجار في أية لحظة.