بداية، لا بد من التفريق بين التواصل الإستراتيجي من جهة وبين العلاقات العامة وحملات البروباجاندا الإعلامية من جهة أخرى، بالرغم من اعتمادها جميعاً على بعض الأدوات المشتركة، فالعلاقات العامّة (PR) تهدف لعرض أحداث أو أشخاص بصورة جميلة بغض النظر عن حقيقتها والبروباجاندا تضلل الجماهير، أما التواصل الإستراتيجي فيتعامل مع الواقع ومهمته الرواية والسرد الصادق المبني على لغة الحقائق.
يهدف التواصل الاستراتيجي لاستخدام التأثير لتغيير السلوك، ولكن أيضًا لتحويل الروايات والأطر المركزية إلى الأرضية التي تدعم أهدافنا الاستراتيجية. إذا تمكنا من إنشاء السرد والتأطير المهيمنين والحفاظ عليهما، فسنكون قد "أقنعنا" الجمهور بشكل فعال بالتفكير في قضية ما بطريقة منسجمة مع استراتيجيتنا.
التواصل الاستراتيجي هو "الانخراط في مسابقة المصداقية لتحقيق أهدافك", التغييرات التي نسعى لإحداثها هي تغيرات في الفكر, نقوم بذلك دون الحاجة إلى أي وسيلة للسيطرة المباشرة على عقول الناس، ولا أي رغبة في استخدام القوة، ولكن نريد قوة الجدل والمنطق.
يستخدم خبير القوة الناعمة بجامعة هارفارد، جوزيف ناي، عبارة "المصداقية التنافسية". وهذا يعني أننا في التواصل الإستراتيجي نتحدى بمصداقيتنا مصداقية الطرف الآخر، وعليه يجب أن نعترف أحيانا بالخطأ في حال تخطينا التفسير المنطقي للأدلة وتحول الخطاب الى نقاش مضلل! تحديد وفهم الجمهور المستهدف هي مهارة في التواصل الاستراتيجي، فبعد تحديد الفئة وصياغة الرسائل لتحقيق التأثير المطلوب، لا بد من تقييم الأداء ومراقبة الأثر، وبناءً على النتائج قد نضطر لتغيير الرسائل بما يلائم ردود الفعل وهنا قاعدة أساسية في التواصل الإستراتيجي هي الحقيقة وبناء الرواية على الأدلة التي توضح ما نقصده دون ترك المجال لأي تفسير سلبي من قبل الخصوم في محاولة لتضليل الجمهور.
هناك العديد من القضايا التي لا يوجد بشأنها حقيقة واحدة متفق عليها، ولكن هناك مجموعة واسعة من التفسيرات التي يمكن أن يحملها أصحاب المصداقية بشكل معقول. يحب الطغاة الإصرار على أن هناك حقيقة واحدة فقط، هي حقيقتهم.
اختبار التواصل الاستراتيجي يتم قياسه اذا صمد أمام اختبار الواقع؟
أفادت الأنباء أن شرطة برلين فتحت تحقيقا أوليا ضد الرئيس الفلسطيني محمود عباس بسبب تصريحاته الأسبوع الماضي بأن إسرائيل ارتكبت "50 محرقة" ضد الفلسطينيين. من الجدير ذكره ان التقليل من أهمية الهولوكوست يعتبر جريمة جنائية في ألمانيا, بالتالي أثارت التصريحات التي ألقيت خلال مؤتمر صحفي في برلين إلى جانب المستشار الألماني أولاف شولتز، غضبًا في ألمانيا وإسرائيل وخارجها، وبالتالي قدم مواطن شكوى جنائية رسمية ضد الرئيس عباس لاحتمال تورطه في التحريض على الكراهية. من المهم الإشارة إلى أن فتح تحقيق أولي لا يستلزم تلقائيًا إجراء تحقيق كامل، على الرغم من حقيقة أن ألمانيا لا تعترف بالسلطة الفلسطينية كدولة ذات سيادة، أكدت وزارة الخارجية الألمانية أن الرئيس عباس الذي كان في زيارة رسمية يتمتع بالحصانة من الملاحقة القضائية.
بعد هذه التفاصيل، قد يعتقد بعض المراقبين أن الرئيس عباس قد أفلت لسانه وارتكب خطأ لفظيا خطيرا، وقد يعتقد البعض الآخر أن المستشار شولتز بعد أن "اشمأز" من تصريحات الرئيس عباس، قد ارتكب خطا دبلوماسيا عميقا.
الإقناع يتعلق بالتحليل العقلاني والمنطقي والبناء وليس المشاعر والعواطف. يسعى الاتصال الاستراتيجي إلى الإقناع بدلاً من التعاطف.
هنا ستوظف الغالبية العواطف والتعامل مع الماضي، أحث الجميع على قراءة ما قدمته حول التواصل الاستراتيجي بعناية، ومحاولة تطبيق أساسيات هذه النظرية على دراسة حالة لتوصيل معاناة التفرقة العنصرية الموثقة والاحتلال المطول منذ نكبة عام 1948, المدعوم بالكامل من ألمانيا والدول ذات التفكير المماثل.
للتواصل مع أولئك الذين يدافعون عن حل الدولتين، وفي نفس الوقت يوفرون حماية للجرائم الإسرائيلية في منابر الأمم المتحدة، في المحكمة الجنائية الدولية، من خلال دعم السلاح والاستخبارات، مع الالتزام العلني بـ "حل الدولتين، لم تتجرا أي من الدول الأوروبية لتجميد العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل رداً على مصادرتها لما تبقى من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، في انتهاك صريح لقرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي (242 ، 338 ، 253 ، 267 ، 298 ، 476 ، 478 ، 2334). لم يسحبوا سفراءهم، كوسيلة لإجبار إسرائيل على التوقف عن سجن أكثر من مليوني شخص في معتقل يسمى قطاع غزة. لم يعلقوا الاتفاقات التجارية مع إسرائيل. منذ اليوم الأول لاتفاقات أوسلو، تنتهك إسرائيل المبدأ الأساسي الذي تستند إليه الاتفاقات: قطاع غزة والضفة الغربية هما وحدة جغرافية واحدة، تحمل الشعب الفلسطيني تصريحات مزدوجة المعايير لسنوات طويلة، لقد حولت منظمة التحرير الفلسطينية بالفعل استراتيجياتها من الكفاح المسلح إلى المفاوضات وكملاذ أخير تبنت القانون الدولي في لاهاي، هل سمعنا أن ألمانيا أو البلدان ذات التفكير المماثل تحتفي بذلك!؟
ازدواج المعايير أمر مثير للاشمئزاز بالفعل، وحماية جرائم الحرب أمر مثير للاشمئزاز، وتمويل نظام كولونيالي استعماري أمر مثير للاشمئزاز، والسكوت على تمييز عنصري موثق، واحتلال طويل الأمد، وسياسات عنصرية واحتجاز إداري، وقتل خارج نطاق القانون، وتهجير قسري، واحتجاز جثث الشهداء، كل هذه أمور مثيرة للاشمئزاز!
يحاول الشعب الفلسطيني أن يروي معاناته منذ 7 عقود بكل أنواع الرسائل. الأسبوع الماضي، لم يقلل الرئيس عباس من شأن الهولوكوست، بل على العكس، من بين جميع القادة العرب، لا أذكر أن أيًا منهم قد أدانها بقدر ما فعل، كرر رأيه مرارًا وتكرارًا ورفضه الشديد للجرائم النازية. ندرك جميعا ان العالم يرتبط بشكل كامل بمصطلح "الهولوكوست"، بالتالي استخدم الرئيس عباس ببساطة استعارة لغوية يستوعبها الجمهور، وهي أداة اتصال استراتيجية لمحاولة توليد التعاطف من خلال الإقناع بمعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي بتوظيف اللغة التي تحرك عقول وقلوب الجمهور المستهدف.
كما هو موضح أعلاه ، يمكن أن يكون لكل رسالة تفسيرات مختلفة، ولكن لا يمكنك أبدًا تضليل الجماهير إذا قمت بفحص الواقع، لا يمكن أن تستمر بإخراج الكلام عن النص وبتلفيق الحقائق الدوارة لفترة طويلة خاصة مع الجيل الصاعد، واستخدام التطبيقات وأدوات الوسائط الاجتماعية، يمكن أن يكون هذا الجيل سطحيًا في بعض الأمور، لكنني متيقنة أنهم لا يأخذون الأشياء كأمر مسلم به، فهم أكثر توجهاً نحو المنطق وهم يدركون أن أي شخص هو مجرد إنسان بغض النظر عن الانتماء الديني أو الأيديولوجي أو اللون أو العرق، هذا الجيل لا يستطيع استيعاب او تصديق ما آمن به هتلر بشأن الجنس الآري، الذي عرفه بالعرق الذي ينتمي إليه كل الألمان الحقيقيين، "العرق الذي كان دمه (روحه) من الدرجة الأولى, لقد خلق الله الآريين كأكثر البشر كمالًا، جسديًا وروحيًا "، بالنسبة للجيل الجديد، لا يمكن تعريف هذا إلا بالعنصرية إن لم يكن العبث المطلق والجنون.
كفلسطينية أرفض اضطهاد حقوق الانسان وأرفض كل ممارسات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني وأقف بوجه الظلم والقتل والعنف والإرهاب بكل أشكاله. قمت بزيارة متحف الهولوكوست الشهير في واشنطن لأهداف التعلم والدراسة، أما الحقيقة التي شدتني ويجب تسليط الضوء عليها فهي أن الخارطة الكبيرة المعلقة على الحائط في وسط المتحف تظهر مدينة القدس وتشير بالاسم الى فلسطين دون أي ذكر لإسرائيل.
هذه قصة حقيقية أعزائي القرّاء، وهي من الواقع الأمريكي-الإسرائيلي المُجسد بأبهى صوره في واشنطن، هذه رسالتي لألمانيا وإسرائيل وكل العالم الذي هاجم الرئيس عباس وأخرج كلماته بخصوص الهولوكوست من سياقها لتضليل الجماهير. الحقيقة أيها العالم أن الهولوكوست نفسه يعترف ويشهد بالكتابة الموثقة وبالخريطة المعلقة في متحف واشنطن أن فلسطين على خارطة العالم. أولئك الذين يؤمنون بالهولوكوست ملزمون بوضع فلسطين مرة أخرى على خريطة العالم لأنك هناك، عند زيارتك للمتحف، لن ترى إسرائيل بل فلسطين على الخريطة. الحقيقة الأخرى التي تعلمتها أن الهولوكوست استهدفت في الواقع جميع الساميين بما في ذلك المسلمين والفلسطينيين، لكن هتلر قرر وضع اليهود في المقام الأول! كنا التالي في الطابور، هذه هي الحقيقة التي لا يجرؤ أحد على التحدث بها.
قد يختلف المرء مع بعض ما حاولت توضيحه, في الواقع، من الضروري تعلم الدروس من التاريخ الحديث, لذلك، يتم استخلاص هذه الدروس من التفسير الموضوعي المعقول لدراسة الحالة هذه وكما قال جاكوب بوركهارت ذات مرة: "إن الاستخدام الحقيقي للتاريخ ليس جعل الرجال أكثر ذكاءً في المرة القادمة ولكن لجعلهم أكثر حكمة إلى الأبد." كأكاديمية ، أنا لا أكتب لأعلم أي شخص أي شيء سوى لجعله يفكر.
- دلال عريقات: أستاذة الدبلوماسية والتخطيط الاستراتيجي، كلية الدراسات العليا، الجامعة العربية الأمريكية.