حماس وتركيا أردوغان:‏ مساحات للثقة وأخرى للتساؤل والحوار!!

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

‏ بقلم:د. أحمد يوسف

 

 

تعود معرفتي بتركيا إلى مطلع السبعينيات، حيث سافرت إلى هناك للدراسة بعد الانتهاء ‏من الثانوية العامة، إلا أنني لم استمر فيها أكثر من ستة شهور، وغادرتها بعد ذلك ‏عائداً إلى أرض الوطن.. تعلمت اللغة التركية، والتقيت العديد من القيادات الإسلامية ‏من تنظيم (مللي جوروش-فكر الأمة)، الذي أسسه البروفيسور نجم الدين أربكان عام ‏‏1969.‏


لثلاثة عقود متتابعة، غابت تركيا من مشهد الاهتمام والمتابعة بالنسبة لي، إلى أن ‏عُدنا للالتقاء بقياداتها الإسلامية في العاصمة الأمريكية واشنطن، وكانت أول تلك ‏اللقاءات مع السيد نجم الدين أربكان وعبد الله غول، حيث تسنى لي دعوتهم إلى مركز ‏الأبحاث والدراسات الذي كنت مديراً له هناك، ثم تشرَّفنا بحضور بعض الأنشطة ‏السياسية والإعلامية وكذلك لقاءات أخرى مع الجالية التركية والمسلمة قام بترتيب ‏إعدادها المجلس الإسلامي الأمريكي. ‏


طوال سنوات التسعينيات، تزايدت اللقاءات بالشخصيات الإسلامية التركية القيادية، ‏فكانت هناك مشاهدات وحوارات مع د. أحمد داود أوغلو والدكتور إبراهيم كِلن، ثم ‏سافرت إلى أنقرة مع وفد من قيادات العمل الإسلامية عام 1997 بدعوة من السيد ‏أربكان؛ وكان -حينئذ- رئيساً للوزراء، حيث التقيناه وعددٍ من نواب حزب الرفاه ‏الحاكم، ثم التقيت النائبة مروة قاوقجي في واشنطن، وبعد ذلك السيد رجب طيب ‏أردوغان؛ زعيم حزب العدالة والتنمية، والوفد المرافق له في تشرين الثاني 2001 بالعاصمة ‏واشنطن.. وبعد فوز حركة حماس في الانتخابات التقيت السيد أردوغان؛ رئيس ‏الوزراء، في العاصمة التركية، في أبريل 2007 كمستشار سياسي لرئيس الوزراء ‏إسماعيل هنية، وكان لنا بعد ذلك أكثر من لقاء تشاوري مع وزير خارجيته د. أحمد ‏داود أوغلو وكلك مستشاره د. إبراهيم كِلن.‏


كانت تركيا بمثابة بلدي الثاني، حيث عشقتها وعرفت الكثير من رجال السياسة ‏والإعلام فيها، إلى أن كتب الله لابنتي أن تتزوج تُركياً، ويصبح لنا فيها أحفاداً ‏وأصهاراً.‏


لذلك، عندما نتحدث عن تركيا، وخاصة تركيا أردوغان، فإن هناك الكثير مما يمكننا ‏أن نورده من المواقف وشواهد الكلام، وهذا بعضٌ منها:‏


إن تركيا أردوغان التي عرفها الشعب الفلسطيني هي التي غضب رئيس حكومتها من ‏أجل الفلسطينيين في دافوس عام 2009، وسجَّل موقفاً غير مسبوق حين احتج على ‏الانحياز الدولي لصالح إسرائيل، وجرائمها الإنسانية بحق الفلسطينيين، فقال كلمته ‏المدوية والمنددة بتلك الجرائم وغادر المؤتمر.‏


‏ تركيا أردوغان التي وقفت إلى جانب الفلسطينيين وحرَّكت أكبر حملة تضامنية لكسر ‏الحصار عن قطاع غزة، حيث حملت سفينة (مافي مرمرة) المئات من المتعاطفين ‏العرب والمسلمين، وعشرات الشخصيات الاعتبارية من الدول الغربية، وسجَّلت واقعة ‏تاريخية كنُصرة للقضية الفلسطينية، وكادت تخوض حرباً مع إسرائيل، حين تعرضت ‏تلك السفينة للاعتداء عليها في المياه الدولية، وقد أُجبرت إسرائيل أن تدفع تعويضات ‏مالية للضحايا.‏


تركيا أردوغان التي قطعت العلاقات العسكرية والأمنية مع إسرائيل، ووقفت إلى جانب ‏الحق الفلسطيني، وحسمت خياراتها بالاصطفاف خلف القضية الفلسطينية وقضايا ‏الأمة الإسلامية.‏


تركيا أردوغان التي دعمت الرئيس عباس وشجعته في الذهاب إلى مجلس الأمن ‏والمطالبة بانضمام فلسطين كدولة عضو إلى الأمم المتحدة، وسخَّرت من أجل هذا ‏التحرك دبلوماسيتها الفاعلة عربياً وإسلامياً، ونجحت في تمكين الفلسطينيين والرئيس ‏عباس من تحقيق ذلك في الجمعية العامة عام 2012.‏


‏ تركيا أردوغان التي سمحت بدعم القضية الفلسطينية مالياً، فتحركت بذلك مشاريع ‏العمل الإغاثي، وجاءت قوافل كسر الحصار تباعاً، وقامت بتقديم مساعدات مالية ‏وإغاثية عبر الكثير من المؤسسات الرسمية والشعبية الإنسانية.‏


تركيا أردوغان التي تبنت وزارة الأوقاف فيها إعادة بناء وترميم مئات المساجد التي ‏دمرتها الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة.‏


تركيا أردوغان التي انتصرت للربيع العربي ووقفت بجانب الحركات الإسلامية، كونها ‏الطريق لتحريك الزحوف من أجل تحرير فلسطين.‏


لقد كانت تركيا أردوغان أول من استقبل قيادة حماس بعد فوزها في الانتخابات، فكان ‏استقبال خالد مشعل وغيره من قيادات الحركة، حيث أضحت تركيا هي محطة مهمة ‏للدبلوماسية الفلسطينية؛ سواء الرسمية أو التي تمثل حركة حماس.‏


تركيا أردوغان بادرت بجمع كلٍّ من فتح وحماس والرئيس عباس وهنية، من أجل رأب ‏الصدع وتقريب العلاقة بين الطرفين، بهدف إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة ‏الفلسطينية.‏


تركيا أردوغان الدولة التي فتحت أبوابها لاستقبال الكثيرين من أسرى صفقة (وفاء ‏الأحرار)، ومنحت الفلسطينيين حق الوصول إليها للعمل أو الاستثمار بدون قيود، كما ‏سمحت لحركة حماس وكوادرها أن تتحرك بحرية، وسهَّلت لهم الحصول على الجنسية ‏التركية، ويسَّرت للقيادات السياسية لحماس الإقامة على أراضيها، والتحرك من أجل ‏قضيتهم ومظلوميتهم كفلسطينيين، ودعمت حقهم في تقرير المصير.‏


تركيا أردوغان الساحة التي استضافت مئات المؤتمرات التضامنية مع القضية ‏الفلسطينية، وتركت أبوابها مُشرعة لكلِّ من ينتصر لفلسطين وقضيتها.‏


‏ تركيا أردوغان التي فتحت جامعاتها للطلاب الفلسطينيين على شكل منح دراسية أو ‏تسهيلات قبول للمئات منهم سنوياً من قطاع غزة والضفة الغربية، وقامت باستيعاب ‏العشرات منهم للعمل في الجامعات والمؤسسات التركية.‏


تركيا أردوغان كانت أول الصرخات المنددة بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ‏والمطالبة بوقف الاعتداءات وأشكال الحرب المختلفة على الفلسطينيين خلال ‏المواجهات التي وقعت أعوام (2008، 2012، 2014، 2021م)، وكان صوتها هو ‏الأعلى أممياً في المحافل العالمية، مُطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين في ‏المحكمة الجنائية الدولية.‏


تركيا أردوغان التي ما زالت تحافظ على إرثها العثماني في القدس، وتبذل كلَّ ما يلزم ‏من دعم للمحافظة على وقفياتها الإسلامية هناك.‏


ولعلَّ من الجدير ذكره، أنَّ تركيا العثمانية ولأكثر من أربعة قرون حافظت على هوية ‏فلسطين الإسلامية، وعندما خسرت في الحرب العالمية الأولى كانت فلسطين وشعبها ‏ضحية المخططات الاستعمارية البريطانية والأمريكية.‏


إنَّ هذا الجزء من المشهدية التاريخية لمواقف تركيا العثمانية وتركيا أردوغان من ‏القضية الفلسطينية، والذي يدعو للفخر والاعتزاز، يُلزمنا كفلسطينيين وحركات مقاومة، ‏وخاصة حركة حماس، الوعي بقواعد السياسة الدولية، ومنهجية السلوك الذي تُبنى ‏عليه العلاقة بين الدول والحركات، حتى لا يذهب البعض بعيداً في التوقعات، ‏وافتراض كل ما هو خارج الحسابات السياسية والأمنية للدول.‏


إنَّ تركيا أردوغان تبذل الكثير من الجهد من أجل نُصرة القضية الفلسطينية ودعم ‏الشعب الفلسطيني، إلا أن هناك ضوابط وسياسات تحكم توجهات تركيا الخارجية ‏بحكم علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية ووجودها داخل حلف ‏الناتو، ومحاولاتها الانضمام للاتحاد الأوروبي. ‏


إنَّ مما يتوجب علينا فهمه كحركة حماس، هو أنَّ تركيا أردوغان مستهدفة، وهي ‏تتحرك في حقلٍ من الألغام، إذ إن الغرب – وهذا ما تعلمه تركيا أردوغان- لن يسمح ‏بإسقاط دولة الكيان الصهيوني، فالدعم الغربي لإسرائيل غير مسبوق في التاريخ.. ‏لذلك، فإن تركيا أردوغان مُدركة للمدى الذي يمكن أن تصل إليه حدود قدراتها، وما ‏يمكنها تقديمه من دعم سياسي ودبلوماسي وإنساني للشعب الفلسطيني ولحركة حماس.‏


إنَّ ثقتنا عالية بتركيا أردوغان، وإنَّ الدول كالأفراد لا يمكن تحميلها فوق طاقتها، ‏وعلينا كإسلاميين في المشهد السياسي الفلسطيني أن نترك مساحات للتساؤل والحوار ‏مع الاطمئنان بأن تركيا أردوغان لن تُخيِّب ظنون الفلسطينيين في مواقفها وتحركاتها، ‏والأمل ألا نكون نحن في سياساتنا مثاراً للتهور والنهج الخطأ. ‏