هارتس : كفى كذباً: إسرائيل لا تملك خياراً عسكرياً ضد إيران

حجم الخط

بقلم: يوسي ميلمان*

 

 



قبل نحو 35 عاماً، مع نهاية الحرب مع العراق، قررت إيران تجديد برنامجها النووي، الذي تأسس خلال حكم الشاه في الستينيات من القرن الماضي، وحاز مساعدة إسرائيلية، بحسب تقارير أجنبية.
جُمد البرنامج في سنة 1980، بعد وقت قصير من الثورة الإسلامية، عندما اجتاح الجيش العراقي إيران، التي كانت هذه المرة بقيادة الخميني.
كان قرار العودة إلى المسار النووي وتطوير صواريخ باليستية الاستنتاج الأهم الذي توصلت إليه إيران بعد الحرب الصادمة مع جارتها. فجيش صدام حسين استعمل الأسلحة الكيميائية خلالها، من دون أي رد من الغرب. بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة، بقيادة رونالد ريغان، دعمت العراق بالمعلومات الاستخباراتية والأموال التي تقدَّر بعشرات مليارات الدولارات. وكردٍّ على ذلك، توجهت طهران إلى التزود بالسلاح الكيميائي، بمساعدة رجل الأعمال الإسرائيلي، ناحوم منبار.
عادت إيران إلى المسار النووي بهدف الحصول على شهادة تأمين لبقاء نظام آية الله، بما معناه الرد على سياسات الغرب تجاهها. فهمت أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية هذه الحقائق بعد تأخير بضعة أعوام، في أوائل التسعينيات. ومنذ ذلك الوقت تأتي حكومات وتذهب في إسرائيل، وتبدلت قيادات هيئة أركان ورؤساء موساد، إلاّ إن الشعارات والمبررات لا تزال هي ذاتها. كصلاة أو عبادة، جميعهم يعيدون الأسطوانة ذاتها "سنمنع إيران من الوصول إلى سلاح نووي"، و"كل الخيارات مطروحة (وضمنها العسكرية)".
مرّ ما يقارب الثلاثين عاماً، ولا تزال القيادات السياسية والأمنية تكذب على الجمهور، تبث الأوهام وتضلل، كأن إسرائيل تملك فعلاً خياراً عسكرياً ضد المشروع النووي الإيراني. الحقيقة هي أنه لو كانت لإسرائيل إمكانية كهذه، كانت ستظهر عندما كان المشروع في مراحل التحضير. في سنة 2008، قال لي وزير في المجلس الوزاري المصغر، مطلع على الموضوع، إن إسرائيل أضاعت الفرصة لضرب المواقع النووية الإيرانية، عندما كانت لا تزال في مراحلها المبكرة، وكان جورج دبليو بوش لا يزال في البيت الأبيض.
إذا كان هذا هو الواقع، فلماذا يعود شعار "الخيار العسكري" كل مرة من جديد في العناوين؟ والأكثر غرابة هو لماذا يعود في الوقت الذي يتم خلاله الدفع قدماً بالاتفاق النووي بين إيران والقوى العظمى؟ يعود السبب إلى الاستثمار السياسي الداخلي، وأيضاً إلى ميل السياسيين والعسكريين إلى تعظيم دورهم أو نسب قدرات لأنفسهم. وبكلمات أُخرى: بثّ أقوال غير ممكنة واقعياً ما يدلل أساساً على تفاخُر وعدم تواضُع إسرائيلي. وكأنهم في القدس يعرفون ما هو أفضل بالنسبة إلى المصلحة الأميركية.
مثالاً لذلك أن رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، ورئيس "الموساد السابق، يوسي كوهين، كلاهما ينسب لنفسه التأثير في قرار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الانسحاب من الاتفاق النووي وفرض عقوبات أحادية على إيران.
صحيح أن نتنياهو وكوهين عملا على إقناع ترامب، لكن في نهاية الأمر قام الرئيس الأميركي، الذي وعد في حملته الانتخابية بالانسحاب من الاتفاق النووي، بذلك بسبب حساباته الخاصة. مثال آخر هو شمريت مئير، التي كانت مستشارة سياسية لدى رئيس الحكومة السابق، نفتالي بينت، وحاولت نسب التأجيل الأميركي للعودة إلى الاتفاق النووي لنفسها. فادّعت مئير أنها نجحت في إقناع الرئيس جو بايدن بعدم توقيع الاتفاق. وأعاد بعض الصحافيين الإسرائيليين نشر أقوالها. لكن هناك مشكلة واحدة: مَن أعاق قرار العودة إلى الاتفاق النووي هم متخذو القرار في طهران، وليس في واشنطن.

لكل هدف بديل
الهدف من العمليات الإسرائيلية ضد المشروع النووي الإيراني هو التشويش والتأجيل. ومن المؤكد أن لها دوراً مركزياً في أن إيران اليوم، في سنة 2022، لم تصل بعد إلى مكانة دولة على عتبة النووي، على الرغم من قربها منها. ومع ذلك، فإنه كان من الواضح لمئير داغان وتامير فوردو رئيسيْ الموساد السابقين، أن هذه العمليات، ومهما كانت ناجحة - لن تمنع طهران من تركيب القنبلة النووية، إذا صممت على ذلك.
منذ سنة 2009، خرّب "الموساد"، بحسب ما يُنسب له، عشرات المرات في المواقع النووية الإيرانية، واغتال على الأقل عشرة علماء. أغلبية المواقع رُمِّمت، واستُبدل العلماء بآخرين ليسوا أقل قدرة منهم. فحتى اغتيال د. محسن فخري زادة، أبي المشروع النووي العسكري الإيراني، في تشرين الثاني 2020 لم يعرقل فعلاً المشروع. ففي بداية الشهر، نشرت قناة "إيران إنترناشيونال" أن سعيد بورج، تلميذ فخري زادة، هو العالِم الذي يدير اليوم منظومة صناعة الرؤوس النووية الخاصة ببلاده. يجب الإشارة إلى أن القناة تُعتبر قناة لـ "الموساد"، الذي يقوم بنشر معلومات عبرها، لا يريد أن تُنشر باسمه.
لا شك في أن رئيس "الموساد"، ديفيد برنيع، ورئيس هيئة الأركان، أفيف كوخافي، وقائد سلاح الجو الجديد، تومر بار، سيستمرون في العمليات السرية ضد إيران. لكنهم سيتوصلون، عاجلاً أم آجلاً، إلى الاستنتاج ذاته الذي توصل إليه ناحوم أدموني في سنة 1980، الذي كان حينها نائب رئيس "الموساد" والمسؤول عن الجهود لمنع صدام حسين من تطوير سلاح نووي. حينها، قال أدموني لمناحيم بيغن: العمليات السرية استُنفدت. الإمكانية الوحيدة لمنع العراق من الوصول إلى السلاح النووي هي عملية عسكرية. البقية مكتوبة في صفحات تاريخ إسرائيل. بعد 26 عاماً، اتخذ رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، قراراً مشابهاً، بعد أن فهم المستوى السياسي أنه لا يمكن إحباط الخطة النووية السورية عبر عمليات برية سرية.
لكن على عكس العمليات التي استهدفت المفاعل النووي العراقي والسوري، لا يوجد لدى إسرائيل إمكانية حقيقية لإحباط البرنامج النووي الإيراني بعملية عسكرية. استخلصت إيران العبر، وقامت بنشر مواقعها النووية في أراضي الدولة. يوجد لديها عشرات المواقع التي تُدار فيها حلقات البرنامج: اليورانيوم، ومعالجته وتحويله إلى غاز، وتخصيبه وتجميعه. بعض هذه المواقع موجود عميقاً في باطن الأرض (نتانز وفوردو). وفي مقابل مدينة آراك يوجد لدى الإيرانيين مفاعل مياه ثقيلة (تم تجميد البناء فيه بعد توقيع الاتفاق النووي في سنة 2015)، والهدف منه استخراج البلوتونيوم - مسار آخر لاستخراج المادة. بالإضافة إلى أنه لدى إيران مختبرات ومصانع إضافية، تضم آلاف المهندسين والعلماء والتقنيين.

ليست "ضربة وانتهينا"
يستطيع سلاح الجو الوصول إلى كل مكان في إيران، بمساعدة التزوُّد بالوقود جواً. وبحسب تقارير أجنبية، قامت طائرات F-35 بذلك بالفعل. وبحسب تقارير أجنبية أيضاً، فإن إسرائيل وجّهت طائرات من دون طيار إلى سماء إيران، وألحقت الضرر بمخازن مسيّرات إيرانية، وبموقع لتخصيب اليورانيوم في نتانز.
ادّعت إيران قبل عدة أعوام أنها نجحت في إسقاط مسيّرة من صنع إسرائيلي، بعد أن انطلقت من أذربيجان، حليفة استراتيجية لإسرائيل. وفي المقابل، لا تملك إسرائيل قنابل تستطيع "اختراق التحصينات"، القنابل الأميركية التي تحملها طائرات كبيرة جداً. سابقاً، طلبت إسرائيل من الولايات المتحدة تزويدها بهذه القنابل، إلا إن إدارة أوباما رفضت.
بالإضافة إلى أن المشروع النووي الإيراني الموزع جغرافياً يحتاج إلى استخبارات دقيقة جداً تدل على مكان المواقع الكبيرة المخصصة للتخصيب، وأيضاً المختبرات الصغيرة والمصانع. وبعد هذا كله، لا حاجة إلى جهد ومكان خاص كبير جداً من أجل تركيب القنبلة ذاتها. هل تعرف إسرائيل فعلاً مكانها؟ صعوبة إضافية مرتبطة بأن العملية ضد إيران ليست "ضربة وانتهينا"، بل تحتاج إلى عدة موجات من الهجوم. ولنفترض أن إسرائيل نجحت جزئياً، فما هو الثمن الذي ستدفّعها إياه إيران ذاتها، أو أذرعها في المنطقة؟
في الوضع الحالي (الذي لم يتغير جوهرياً منذ أعوام طويلة)، الدولة الوحيدة القادرة على العمل عسكرياً ضد إيران هي الولايات المتحدة. لكن الولايات المتحدة، بعد حرب أفغانستان والعراق، لم تكن تريد ذلك في فترة ولاية ترامب، ولا اليوم في فترة ولاية بايدن. شبعت من الحروب بصورة عامة، وخصوصاً في الشرق الأوسط، وتفضل العودة إلى الاتفاق النووي. فبحسبها، الدبلوماسية أفضل من الخطوات العسكرية المغامرة. لذلك، من الأفضل للمستوى السياسي والعسكري التوقف عن التبجّح. هذا ينطبق على لابيد وبينت ونتنياهو أيضاً. على إسرائيل العمل بصمت، وأن تستمر في جعل مهمة إيران بالدفع قدماً بخطتها النووية أصعب، وأن تحافظ على الحوار مع الأميركيين داخل الغرف المغلقة. يبدو أنه لا مفر فعلاً من الصفقة، ولذلك، عليها أن تكون أفضل ما يمكن بالنسبة إلى إسرائيل. العودة إلى الاتفاق ستُبعد إيران ثلاثة أعوام تقريباً عن القدرة على تصنيع القنبلة، هذا أفضل السيئ.
وعلى الهامش، خلال كل نقاش أو حوار بشأن المحادثات الدبلوماسية، أو الإمكانية العسكرية، هناك نقطة إضافية يفضلون عدم الخوض فيها في إسرائيل: هل تريد إيران فعلاً تركيب سلاح نووي؟ غير ذلك، لا يمكن تفسير حقيقة أنها، وبعد 35 عاماً، لا يوجد لديها قنبلة نووية، ولم تتخطّ العتبة. يشير التاريخ إلى أن كل دولة أرادت تطوير وصناعة وتركيب وتجميع مخزون من القنابل النووية فإنها قامت بذلك خلال 5-7 أعوام. هذا ما قامت به الهند، وباكستان، وجنوب أفريقيا (التي تنازلت عن سلاحها)، وكوريا الشمالية. وهذا ما قامت به إسرائيل أيضاً، بحسب تقارير أجنبية.

عن "هآرتس"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*محلل الشؤون الاستخباراتية