أصبح الأمر في غاية الوضوح، ينبئ عن ذُل وهوان الأمتين الإسلامية والعربية اللتين بلغ تعدادهما نحو 2 مليار نسمة، بما يمثل ثلث سكان كوكب الأرض، فلم يعد لغالبية حكومات الدول العربية والإسلامية أي اهتمام بتراب القدس ومقدساتها، إلا بالتسارع في التطبيع والتحالف مع الكيان الإسرائيلي المحتل، في سبيل التمترس بوهن البقاء على كراسي بالية فانية لن تدوم لأحد منهم.
لم يعد لمصطلح الخطوط الحمراء أي تداول في السر أو العلن، حتى أن ذلك الشعار تبخر من قاموس الكذب، الذي تعوّدت عليه الشعوب العربية والاسلامية، فذاك الشعار تلاشى بعيدا عن أي طنين دُوخت الشعوب بكلماته.... بل لم يعد لسارية التلويح به أي بقاء أو أثر.
أعظم الله أجرنا في كثير من تلك الحكومات إن لم يكن في غالبيتها، فالتغني بكذب ملف المقدسات الإسلامية في القدس الشريف، والادعاء بالدفاع عن تلك المقدسات والاستعداد للقتال من أجلها، إلى أن وصل الأمر بالقطعية نتيجة التزاحم على فرش المسجد الأقصى بالسجاد، ثم تطور الأمر إلى التآمر على وصاية المقدسات في القدس الشريف وعلى وجه التحديد المقدسات الإسلامية، التي تتبع إدارتها ورقابتها إلى العائلة الهاشمية الأردنية، سرعان ما انطفأت تلك التصرفات واندثرت نتيجة الالتفاف حول واقع التطبيع الجديد، الذي هو أوهن من بيت العنكبوت، فلن يجدوا في الهرولة والتسابق في التطبيع الذي وصل ذروته بتأسيس شريعة بشرية ما أنزل الله بها من سلطان، تحت مسمى "الدين الإبراهيمي الجديد "، الذي يدور في فلك هدف معلن يتمثل بمعالجة ظاهرة بشرية سلبية في منطقة الشرق الأوسط، من أجل إيجاد فكر جديد يساعد في دمج أو توحيد الشريعتين اليهودية والمسيحية مع الدين الإسلامي في ديانة أو شريعة واحدة وهي الديانة الإبراهيمية، ورغم سذاجة وعبثية تلك الفكرة، ورغم أن موضوع الديانة الابراهيمية ليست محطة ومحور نقاش في هذا المقال، إلا أن ذلك الواقع المرير أساسه الخفي، هو المسجد الأقصى بشكل خاص والقدس وباقي المقدسات بشكل عام.
وفي ضوء ذلك، طُمست نجومية التزاحم وتلاشت شعارات دوخت الأمة على مدار سنين عجاف، فتُرك المسجد الأقصى بلا مدافع اللهم أهل القدس في الصدارة والمواجهة ليس لهم إلا الله العلي القدير.
ما جرى في المسجد الأقصى يوم 28/8/2022، باقتحام نفر من المستوطنين المتطرفين بحماية الشرطة الاسرائيلية ليس بحدث عابر، ولا يمكن اعتباره خبرا كباقي الاخبار التي تذاع يوميا حول تكرار الاقتحامات للمسجد الأقصى من قبل أولئك المتعصبين المتشددين المتعطشين للدمار والتخريب.
لكن الغريب في الأمر، أن محطات الاخبار سواء المحلية أو الدولية لم تراع واقع تغيير الوضع القائم، ولم تعط الحدث أية أهمية على واقع بداية التغيير.
فلولا واقع الضعف والهوان الذي وصلت إليه الأمة اليوم، لما تجرأت دولة الاحتلال على تغيير قواعد الاشتباك والتحدي للوضع القائم بما يطلق عليه Statu quo” “، فضلا عن ذلك واقع تخلي معظم الحكومات العربية والإسلامية عن دورها – الشعارات سابقة الوصف- في الدفاع وفي الحفاظ على المقدسات أو على أقل تقدير عدم تغيير الوضع القائم، لما أعطت إدارة الاحتلال الضوء الأخضر لقطعان من المتعصبين المتشددين المتطرفين من المستوطنين دخول المسجد الأقصى من باب الاسباط.
منذ سنة 1967 لم تسمح سلطات الاحتلال الإسرائيلي لأي مستوطن أو إسرائيلي الدخول إلى المسجد الأقصى، إلا من خلال بوابة المغاربة، ورغم انكارنا لذلك الواقع، لكن لأول مرة تسمح لعدد من المستوطنين المتطرفين باقتحام المسجد الأقصى المبارك عبر باب الأسباط بتاريخ 28/8/2022.
وهذا التصرف يعتبر اختبار بلون لأهل القدس فقط، لإدراكهم أن باقي الأمة في سبات عميق، هدفه جسّ نبضهم أولا، وثانيا معرفة البعد الأمني لذلك التصرف على مدى المستقبل القريب، فيما إذا كان الدخول سيمر مرّ الكرام، أم سيكون له تبعاته وآثاره على الصعيدين الأمني والاجتماعي.
بات من المؤكد أن اتخاذ باب الاسباط كمنفذ إضافي في دخول قطعان من المستوطنين المسجد الأقصى، هدفه الاستراتيجي لدولة الاحتلال فرض امر واقع جديد لمزيد من الاقتحامات المتكررة اليومية، لكن بأفواج منظمة تعيق تصدي أهل القدس للأعداد المنوي إدخالها، وهذا الأمر يعني أن دخول قطعان من المستوطنين من باب الأسباط، فهي عملية تمهيدية ليتم ادخالهم من جميع الأبواب السبعة، بما يمهد كذلك لأمر أعظم، وهو فتح باب الرحمة المغلق حاليا، ليكون الباب الثامن بيد سلطات الاحتلال، من أجل تطويق والانقضاض على جميع بوابات المسجد الأقصى، لفرض الأمر الأكبر وهو التقسيم الزماني والمكاني كما تم في الحرم الابراهيمي في مدينة الخليل.
يجب ألا ننسى أن سلطات الاحتلال، لن تنسى البوابات الإلكترونية، التي حاولت تلك السلطة فرضها لكن بتصدي أهل القدس أزيلت وأزيل آثارها، لذلك عملية التحرش بالوضع الأمني المستتب حاليا، هدفه سياسي داخلي كذلك، ليعطي الفرصة للمترشحين المتصارعين على السلطة في دولة الاحتلال، شرعية إضافية من خلال أصوات المتشددين والمتطرفين من بني جلدتهم، ليكون ذلك الواقع أسهل الطرق للوصول إلى سدة الحكم في ظل الأزمة المتراكمة على مر سنوات في دولة الاحتلال.
ليس هذا فحسب، بل تجرؤ عدد من المستوطنين تحت سمع وبصر قوات الاحتلال للمتطرفين اليهود من أداء الطقوس التلمودية والرقص والغناء بما يخل بقدسية المكان، دليل آخر على عنجهية وتطرف زمرة كبيرة منهم، فعدم احترام وتقديس المكان الذي يدعون أحقية فيه، دليل آخر على كذبهم، ودليل دامغ طافح بكذب ادعائهم بأي حق فيه، فلو كانوا أصحاب حق في البيت حقا وحقيقة، لكان مداسهم يتجلى بوقار واحترام وسكينة بما يحمله المكان من قدسية وسكينة.
فضلا عن ذلك، السماح لبعض الأجانب بخدش القيم الدينية للمسلمين عامة، واستباحة الحياء العام والآداب العامة في ساحات مسجد قبة الصخرة المشرفة، شكل ذلك إضافة لسلسة الأفعال المخلة بالحياء والعرف العربي الاسلامي، فهو أمر جلل وخطير سيزيد من تعقيد الموقف، مما سيدخل القدس وأهلها في دوامة متجددة من العنف والعنف المضاد، لا يعرف عواقب وتخوم آثارها أحد، فتكون سلطات الاحتلال المتسبب الرئيس في إعادة اشعال نار الفتنة، وعليها تحمل المسؤولية الكاملة من أجل منع الصراع الديني، والدخول في منحنيات جديدة عواقبها الاخلال بالأمن والأمان.
في الختام أرى أن الخطوة الإسرائيلية سالفة الوصف، بالسماح للمستوطنين في اقتحام ساحات المسجد الأقصى من باب الأسباط كما تم قبل أيام، يندرج ضمن سياسة العربدة وفرض الأمر الواقع، في ظل هوان وضعف حكومات الأمتين العربية والإسلامية، فالمتغيرات الدولية التي تميل لصالح الاحتلال، ورغم عدد المآسي التي عانها الشعب الفلسطيني، وهول ما عاناه خلال العقود المنصرمة، تناست تلك الحكومات المثل العربي الشائع المأثور "أٌكلت يوم أُكل الثور الأبيض"، فالدور لا محال آتِ عليهم، لأن إذعانهم في تصفية أم القضايا الدولية وهي قضية فلسطين، والإذعان كذلك بانتهاك مقدساتهم، سيزيد من نقمة وتسلط المجتمع الغربي عليهم وسيزيد من بطش الاحتلال بعروشهم وابتزازهم، لأنه من يفرط بقضيته المحورية ومعتقداته لا أمن ولا أمان له.