هل انتهت صلاحية الصراع السني ـ الشيعي في العراق؟

حجم الخط

بقلم هيفاء زنكنة

وأخيرا عاد العراق ليحتل، بعد غياب، مكانا في نشرات الأخبار الدولية. لا لفوزه في ألعاب الساحة والميدان أو كرة القدم أو أي تقدم علمي أو حضاري يليق بتاريخه وسمعته التي طالما تغنى بها أبناؤه والعالم العربي والإسلامي، بل جاءت عودته بعد تغييب لأنه ساحة للاقتتال الداخلي وغياب العقلانية في تسيير الأمور، في داخل الداخل. مما جعل خارطة العراق، كما نعرفه، مقسمة إلى أجزاء من الصعب تجميعها إذا ما استمر الوضع على حاله. ففي الأسابيع الأخيرة، وهنا تكمن جاذبية التغطية الإعلامية الدولية، لم يعد القتلى من العراقيين ضحايا الحرب العراقية الإيرانية، أو نظام صدام حسين، أو قصف تحالف ثلاثين دولة بقيادة أمريكا، أو الحصار، أو المليون من ضحايا الغزو والاحتلال، وما تلاه من إرهاب بمسميات مختلفة من بينها تنظيم داعش. بل صار العراق، في وضعه الأكثر انحدارا في ظل حكومات الاحتلال « الديمقراطية» ساحة للمنافسة للفوز بجائزة من الذي يحصد أرواحا أكثر؟ من الذي يختطف ويعذب ويقتل أكثر؟ من هو الحائز على الميدالية الذهبية لرفع راية الحزب الذي تقوده ميليشيا تتلذذ بطعم الموت؟
« في الحروب ليس هناك فائزون» مقولة قد تكون صحيحة في مكان ما في العالم إلا أنها غير صحيحة إزاء كثرة ضحايا سباق القتل المتعمد في العراق وكثرة المستفيدين منه. فكل الدول التي ساهمت ولاتزال بتحطيم البلد فائزة وكذلك من تقاطعت مصالحهم معها من العراقيين. وإذا كانت الخسارة الحقيقية مُجسّدة بالضحايا وعوائلهم من نساء وأطفال، فإن الضحايا لا يسلمون حتى بعد قتلهم، من قبل قاتليهم. إذ تسارع الأحزاب و« التيارات» و«المكونات» للمتاجرة بهم في ساحة منافسة أخرى ولكن باسم وتعليب جديدين.
من بين مسميات الضحايا الجديدة التي شاعت في الأسابيع الأخيرة، أثر إقتتال يوم الاثنين الماضي، الذي خّلف 45 قتيلاً وعشرات الجرحى، بعد ساعة من إعلان مقتدى الصدر، قائد التيار الصدري اعتزاله، واقتحام أنصاره المباني الحكومية في المنطقة الخضراء، ولأغراض التسويق السياسي والمنافسة على المناصب والفساد، تم تداول المسميات التالية: «شهداء فتنة الخضراء»، «ضحايا الاشتباكات»، « شهداء الحشد الشعبي»، « شهداء الثورة السلمية». كل هذا قبل وقوع الاشتباكات المسلحة بين مليشيا سرايا السلام التابعة للصدر من جهة، وعصائب أهل الحق التابعة لقيس الخزعلي من جهة اخرى، في مدينة البصرة، ليلة الأربعاء الماضي.
للتغطية على سقوط الضحايا، سارع الساسة وقادة الميليشيات ورئيس البرلمان وكل المسؤولين بشكل مباشر أو غير مباشر، وعلى رأسهم مقتدى الصدر ونوري المالكي، إلى الإعلان عن إقامة مجالس عزاء وحداد « على أحداث المنطقة الخضراء». ففي سباق المتاجرة بأرواح الضحايا بات إعلان الحداد هو العملة الرائجة لغسل الأيادي من دماء الضحايا.

جوهر الخلاف الحقيقي هو المنافسة على السلطة لصالح هذه الجهة أو تلك بالتوافق مع المصلحة الذاتية وكيفية توزيع عائدات النفط الباذخة

حيث أعلن رئيس البرلمان الحداد لمدة 3 أيام في مجلس النواب على «أرواح ضحايا العراق»، مع العلم أن البرلمان لم يكن منعقدا بل محتلا سوية مع المنطقة الخضراء، وسط بغداد، من قبل أنصار الصدر. وأعلن «الإطار التنسيقي» وهو تجمع أحزاب شيعية بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، عن إقامة مجلس عزاء على» أرواح ضحايا الاشتباكات». وأقامت ميليشيا الحشد الشعبي، المدعومة إيرانيا، مجلس عزاء على «أرواح ضحايا أحداث المنطقة الخضراء» بحضور معتمد المرجع الديني السيد علي السيستاني. أما مقتدى الصدر، فقد أعلن وزيره (ولعل الصدر هو رجل الدين الوحيد في العالم الذي لديه وزير) عن إضرابه عن الطعام وحل ميليشيا سرايا السلام التابعة له (وهي ليست المرة الأولى)، طالبا من أنصاره «أن يُكثروا من الاستغفار وأن لا يعودوا لمثل هذا العمل مستقبلا حيا كنت أم ميتا». عازفا بذلك على نغمة الاستشهاد التاريخية.
وكأن أيام حداد العراقيين المتشحة بالسواد، وممارسة اللطم والجلد وتطبير الرؤوس ومجالس العزاء من أول شهر محرم حتّى العشرين من صفر، بمناسبة مقتل الحسين، لم تعد كافية. لم يعد تكاثر الأيام السود، في العقدين الأخيرين، بسرعة باتت تنافس مجموع ما عاشه العراقيون من ظلمة حالكة على مدى تأسيس الدولة العراقية، كافيا. والمفارقة المُهينة لعموم العراقيين أن تأتي الزيادة المتسارعة في ظل حكومات كان أفرادها، ولا يزالون، يتباكون على مظلوميتهم، والتمييز ضدهم في عصور الخوف والقتل والمطاردة، وعلى مر الظروف التاريخية. وإذا كان الحزن الجماعي على استشهاد الحسين الذي يمثل خط الثورة والتضحية والمتبدي في إقامة الطقوس والشعائر والمواكب (تم تسجيل تسعة آلاف موكب للمشاركة في إحياء مراسم الأربعين حتى يوم السبت) فإنه، في ترجمته ضمن واقع النظام العراقي الحالي لا يزيد، سياسيا واقتصاديا، عن كونه سوقا للمزايدة الشعبوية والابتزاز العاطفي ومحاصصة الفساد الطائفي. وظهرت ذروة الانحطاط (ولنأمل أنها وصلت القاع فعلا ولا مجال للانحدار أكثر) في الشهور الأخيرة حين انتهت صلاحية استخدام مبرر «الإرهاب السني» ليطفو على السطح جوهر الخلاف الحقيقي وهو المنافسة على السلطة لصالح هذه الجهة أو تلك بالتوافق مع المصلحة الذاتية وكيفية توزيع عائدات النفط الباذخة. فكما أن الارهاب لا يميز بين الناس، أثبت اقتتال «أهل البيت» أن هوس السلطة، مهما كانت أهدافه، وبتعدد مستوياته الشخصية والعامة، هو الأساس. كما أجهض إقتتال «أهل البيت» الدموي الأخير، وتبادل الاتهامات بين «الفصائل المسلحة»، وتبادل إطلاق النار بالرشاشات والصواريخ واستهداف القوات الأمنية من كل جانب، الفبركة الاستعمارية (القديمة – الجديدة) التي روّج لها المحتل الأمريكي بأن عدم نجاحه في العراق، على الرغم من حسن نيته، سببه الصراع السني الشيعي والمظلومية التاريخية بكل أثقالها وتمظهراتها!
ولعل هذه الحصيلة، رغم ثمنها الغالي، هي الجانب الإيجابي الوحيد الذي يلوح من فوضى الصراع الذي لا يمكن التحرر منه ما لم يتم التعامل، وطنيا، مع مخلفات الاحتلال الأمريكي، بضمنها تحويل العراق إلى ساحة لاستعراض العضلات مع إيران، وهدفه في الهيمنة على مصادر الطاقة بالإضافة إلى الأحزاب والميليشيات والعشائر، الممولة إقليميا، ذات المصلحة في إدامة الصراع الطائفي القومي لتسهيل سيطرتها على موارد النفط وتوزيعها حسب المحاصصة.

كاتبة من العراق