رغم أن العالم لم يكن مثاليا، إبان الحرب الباردة التي ظهر النظام العالمي خلالها مرتكزا على ثنائية قطبية، أو منقسما بين عالمين: شرقي اشتراكي وغربي رأسمالي، وذلك بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، إلا أنه يمكن القول بكل ثقة إن عالم ما بعد الحرب الباردة لم يكن أفضل، ولا حتى بما كانت تبشر به الدول الرأسمالية من نشر احترام حقوق الأفراد والنظم الديمقراطية في دول العالم قاطبة، ذلك أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء اتسعت إلى أبعد مدى، فيما هيمنت الولايات المتحدة كقطب عالمي وحيد على العالم بأسره، وباتت تحكمه وفق «منطق المغول»، أي باعتبار أن ما تسميه مصالحها هي فوق الجميع، وأنه يحق لها ما لا يحق لغيرها، مع أن نظامها هي محكوم لنخبة الأثرياء ولوبيات الضغط، وأهمها بالطبع اللوبي الصهيوني، التي تعرف كيف تتحكم في مؤسسات الدولة، خاصة حزبي تداول الحكم، إضافة للكونغرس والقضاء.
أي أن ديمقراطية الغرب بشكلها الليبرالي ما هي إلا ديمقراطية الأثرياء، فيما يتعلق بالمساواة الداخلية بين المواطنين، أما فيما يخص المساواة بين الدول، فلا سواء بالطبع، فما زالت دول الغرب تعرف كيف تسيطر، بل كيف تسطو على الدول الفقيرة، أو الدول الأضعف سياسيا وعسكريا، ودول الغرب الرأسمالي هي تاريخيا دول الاستعمار، التي كان يمكنها أن تعيد توزيع دول العالم فيما بينها بعد أن انتصرت في الحرب العالمية الثانية، إلا أن وجود المعسكر الاشتراكي حال دون ذلك، وفعلا استقل معظم دول العالم بمساعدة ودعم المعسكر الاشتراكي عسكريا وسياسيا، ولم تندلع الحرب المباشرة بين المعسكرين بسبب الرادع النووي، الذي كانت أميركا بالذات هي أول وآخر من استخدم ذلك السلاح الفتاك ضد اليابان في كل من هيروشيما وناغازاكي، ما دفع اليابان فورا إلى الاستسلام والخروج من الحرب.
والولايات المتحدة، بعد انتهاء الحرب الباردة، التي تم التأريخ لها بانهيار جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفياتي، وانهيار الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا، وذلك مطلع تسعينيات القرن العشرين الماضي، تحولت إلى حاكم مستبد للعالم، تحكمه وفق ما تسميه مصالحها، التي يتسع قوسها ومداها ليشمل العالم كله، وهي التي لم تتورع إبان الحرب الباردة وفق سياسة مد النفوذ بالتورط في إحداث الانقلابات العسكرية في غير مكان من العالم، من تشيلي إلى دول إفريقيا، والتي تورطت في الحروب المباشرة، كما في حرب فيتنام، سارعت إلى التدخل في شرق أوروبا سياسيا بإسقاط أنظمتها الحاكمة الشيوعية، ثم عسكريا بفرض التفكيك على الأساس العرقي في دولها التي كانت خارج منظومتها الرأسمالية، وتدخلت عسكريا في أكثر من مكان، كما فعلت في صربيا.
وفي ظل نظامها العالمي الذي أقامته بعد الحرب الباردة شنت حروبا على أكثر من بلد، بدافع مما تسميه مصالحها الخاصة، رغم بعد تلك الدول عن حدودها آلاف الأميال، كما فعلت في كل من العراق وأفغانستان، وأبقت على النظام العالمي المؤطر في الأمم المتحدة، الذي يمنح الدول العظمى الخمس حق النقض الفيتو في مجلس أمنها الذي يحكمها فعليا وعمليا.
وأميركا حين تواجه دولا قوية عسكريا نسبيا، ولتجنب الخسائر في صفوف قواتها، تسارع إلى فرض الحصار الاقتصادي على أي دولة تظهر تمرداً على سطوتها، تماما كما يفعل أي حاكم مستبد، وقد فرضت إبان الحرب الباردة الحصار على كوبا، بعد أن منعها الاتحاد السوفياتي إبان حكم خروتشوف - كيندي، من اجتياح الجزيرة التي كانت تتبع نظاما شيوعيا، وها هي تفرض منذ سنوات الحصار على إيران وفق سياسة فرض العقوبات الاقتصادية، ولم تجرؤ على اجتياحها كما فعلت مع العراق الذي احتلته وأسقطت نظامه لأنه تمرد عليها بعد أن فرضت عليه حصارا لمدة أربعة عشر عاما.
أما العالم فإن مصلحته في نظام عالمي يحقق المساواة والعدالة الاجتماعية بين البشر، لا أن تكون مهمته هي الحفاظ على المصالح الأميركية ومصالح الدول العظمى، الرأسمالية خاصة، والنخبة الثرية من البشر، ولعل أسوأ مظاهر الاستبداد الأميركي تظهر في علاقتها مع إسرائيل، التي تبقي على احتلالها لأرض دولة فلسطين وشعبها، وتبقي على تفوقها العسكري على كل دول المنطقة، وتغض النظر عن الجماعات المتطرفة التي تتوالد داخلها، وتمارس العنف ضد الفلسطينيين، جنبا إلى جنب قواتها العسكرية وأجهزتها الأمنية وحتى أفراد شرطتها الذين يعملون وفق قوانين الحكم العسكري.
لكن هشاشة النظام الديمقراطي الأميركي تظهر حين تعارض إسرائيل رغبة الغرب ومنه أميركا نفسها في عقد الاتفاق النووي مع إيران، ويعجز جو بايدن عن التوصل لهذا الاتفاق وتوقيعه، بسب الضغط الإسرائيلي على إدارته وعلى الكونغرس، الناجم عن رفض الإسرائيليين لذلك الاتفاق رغم إعداده من قبل دول الغرب الرئيسة مجتمعة، أي ألمانيا وبريطانيا وفرنسا إلى جانب أميركا.
أما المفارقات الناجمة عن سلوك أميركا كحاكم مستبد للعالم، فلا تنتهي، فهي تأخذ على روسيا وفق ما أعلن عن الاستخبارات الأميركية مؤخرا إرسال روسيا نحو 300 مليون دولار لأحزاب سياسية في 24 دولة، منذ العام 2014، أي بمعدل 12،5 مليون دولار لكل دولة خلال الفترة المذكورة، أو أقل من مليون دولار في السنة، وهذا طبعا يعد مبلغا صغيرا جدا، وحتى غير مهم لتحقيق النفوذ الروسي في تلك الدول، خاصة إذا ما تمت مقارنته بما قدمته وتقدمه الولايات المتحدة، من أموال تعد بالمليارات لدعم أنظمة وأجهزة أمنية في العديد من دول العالم لنشر نفوذها، بل وسيطرتها وسطوتها على كل العالم.
طبعا هذه الاتهامات باتت تظهر بعد شق روسيا عصا الطاعة، وبعد أن شبت عن طوق التبعية لأميركا، وهي تدخل في باب التحريض على الدولة «المارقة» للنظام العالمي الذي تترأسه أميركا.
من جهة أخرى تدرس أميركا حاليا فرض عقوبات على الصين، في الوقت الذي تمارس فيه الضغط على الاتحاد الأوروبي ليحذو حذوها، وكل هذا تفعله أميركا لوقف تقدم العالم باتجاه نظام عالمي آخر متعدد الأقطاب كنظام بديل عن الحالي أحادي القطب الذي تترأسه أميركا، بشكل منفرد، يسمح لها بالتحكم بمصير العالم منفردة، والإبقاء على نظام الاستبداد العالمي، حيث لم تقم أميركا بأي فعل من شأنه إسقاط أنظمة حكم ملكية ومستبدة، لأنها كانت وما زالت تتبعها وتخضع لسيطرتها، في أكثر من مكان من العالم، منها تلك الموجودة في الشرق الأوسط، وإذا كان من حق أميركا كدولة أن تقاطع من تشاء اقتصاديا من الدول، فإن الخطر يكمن في ممارستها نفوذها على العديد من الدول حتى تتحول العقوبات ضد دول بعينها إلى حظر دولي شامل، لكن الأمر لن يطول كثيرا، وكما كان من شأن التظاهرات الداخلية أن وضعت حدا للحرب في فيتنام، فمع اقتراب الشتاء قد تظهر احتجاجات شعبية أوروبية ضد العقوبات على روسيا، فشعوب العالم، مع مصلحة المجتمع البشري في العدالة والمساواة والاستقرار، التي لا تقتصر على المصلحة الأميركية وحسب.