شهدت إسرائيل فور احتلالها أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو/ حزيران 1967، مقاربات من قوى سياسية إسرائيلية اتسمت بقدر من استشراف ما سيترتب عن ذلك من تبعات تتعلق بالدولة الصهيونية والصراع مع الفلسطينيين. وسنتوقف عند إحداها الآن، وهي عريضة نُشرت في صحيفة هآرتس يوم 22 سبتمبر/ أيلول 1967، وورد فيها: "إن حقنا في الدفاع عن أنفسنا في مقابل الإبادة لا يمنحنا الحق في قمع الآخرين. الاحتلال يجرّ وراءه حُكماً أجنبياً. الحُكم الأجنبيّ يجرّ وراءه مقاومة. المقاومة تجرّ وراءها قمعاً. والقمع يجرّ وراءه إرهاباً، وإرهاباً مضاداً (المقصود إرهاب دولة الاحتلال). ضحايا الإرهاب هم عادةً أناس أبرياء. السيطرة على الأراضي المحتلة ستحوّلنا إلى شعب من القتلة والقتلى. لننسحب من الأراضي المحتلة فوراً".
ما حثّني على هذه الوقفة وفاة أحد موقّعي هذه العريضة، الناشط السياسي إيلي أمينوف، في أواخر الشهر الفائت، وكنت قد تابعت نضاله وكتاباته على مدار فترة طويلة. ركز أمينوف في كتاباته على مسألتين مهمتين: الأولى، أن تدمير المدن الفلسطينية وطرد سكانها كانا في صلب غايات نكبة 1948، سواء في ما يتعلق بعدد المطرودين من المناطق الحضرية المكتظة، أو ما يتعلق بالنسيج الاجتماعي الثقافي - الحضري النابض بالحيوية والنشاط والتطوّر، الذي سبّبت تلك النكبة تدميره. وبناءً على ذلك، أخطر ما تعرّض للتدمير جرّاء النكبة، برأيه، هو ما كانت المدينة الفلسطينية تنطوي عليه في الجوهر، بصفتها عاملاً حيوياً يساهم في حفز الوعي والتقدّم من الناحيتين الوطنية والاجتماعية، الذي لم يعد له وجود بعد 1948. وأتاح تدمير المدينة الفلسطينية إمكان إدارة حكم عسكري مريح وغير باهظ الثمن، يُحكِم السيطرة على مجتمع متفكّك، ومجرّد من القيادة، وعاد إلى الوراء أجيالاً. كذلك كان تدمير المدينة الفلسطينية يهدف، في ما يهدف، إلى إضفاء قدر من الصدقية بأثر رجعـي على الحجج والأكاذيب والمواقف العنصرية التي تسلحت بها الحركة الصهيونية إزاء السكان الأصلانيين في البلد الذي خطّطت لاستعماره. وفحوى هذه الحجج أن هؤلاء السكان الأصلانيين متخلفون، جهلة .. وما إلى ذلك. لكن الأهم من هذا أنهم بحاجةٍ ماسّة إلى من يأخذ بيدهـم، كي يلحقوا بركب التطوّر والحضارة.
المسألة الثانية، نشر إرث أستاذه، الكيميائي يسرائيل شاحك (1933-2001)، الذي كان من أوائل الذين شخّصوا الصهيونية حركة قومية - مسيانية عنصرية ووحشية إزاء من لا ينتمي إلى "الشعب المختار". وبموجب تحليله، يكمن جذر المشكلة في مهد ظهور الحركة الصهيونية في دول أوروبا الشرقية التي كانت القومية تشخّص فيها، على مرّ سنوات طوال، مع الأصل الإثني والديني. واتّسق هذا التوجه مع التوجه الديني التوراتي القديم الذي يرى في أبناء الديانة اليهودية "شعباً" ويتبع معايير صارمة (هوية الأم) لضمان صلة الدم بالمجموعة "القومية". ولاحظ شاحك كيف أخذت الصهيونية مصطلحات ومفاهيم من الدين اليهودي، وألبستها لبوساً علمانياً وفق النموذج الأوروبي الشرقي، لتجعل منها جزءاً من صيرورتها، فمصطلحات من قبيل "خلاص الشعب" و"إنقاذ البلد" مسيانية، استخدمها زعماء علمانيون في الظاهر. كذلك كان مبدأ الفصل بين اليهود و"الآخرين" بمثابة حجرٍ أساسٍ في مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين منذ البداية. ووفقاً لرؤية شاحك، خدمت الصهيونية على أكمل وجه التوجّه اللاسامي، الذي يرى في اليهود "عنصراً غريباً" في كل مكان، لا يستطيع العيش بانسجام ووئام مع بيئته غير اليهودية. وأظهرت كتابات شاحك وأفكاره أنه اعتقد فترة طويلة بوجود إمكانية لتطوّر "قومية يهودية علمانية"، ولكنه في أواخر حياته لم يعد يتحدّث عن هذه الإمكانية بصورة جادّة.
أخيراً، كان مُوقّعو العريضة المذكورة كافة من حركة ماتسبِن (البوصلة) الراديكالية، التي سبق للمفكر عزمي بشارة أن وصف أعضاءها بأنهم كانت لهم مواقف مبدئية ضد الصهيونية ومن قضايا الشعب الفلسطيني.
عن "العربي الجديد"