في إطار الاحتفاء بمرور عامين على التوقيع في واشنطن على اتفاقيات ما يسمى بالسلام الإبراهيمي، زار وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان، إسرائيل، على رأس وفد شمل مسؤولين عن الشؤون الاقتصادية والاستراتيجية، والتقى القيادات الإسرائيلية، التي عبرت عن رضاها عن تطور مسيرة التطبيع وعن توقها إلى تعميق وتوسيع رقعة التعاون والتنسيق، وحتى التحالف مع دول عربية خليجية وغير خليجية. الموضوع الوحيد، الذي لم يجر التطرق إليه خلال هذه الزيارة هو القضية الفلسطينية، ويبدو أن زيارة بن زايد جاءت تعويضا لرئيس الوزراء الإسرائيلي، يئير لبيد، بعد أن رفضت دول الخليج المشاركة في مهرجان احتفالي بمرور عامين على التطبيع، بادعاء أنها لا تريد التأثير في الانتخابات الإسرائيلية، مع أنها شاركت في طقوس مماثلة وفي موعد مماثل حين كان بنيامين نتنياهو رئيسا للحكومة الإسرائيلية. الامتناع الحالي والمشاركة السابقة هما دليل على انحياز خليجي لنتنياهو، باعتباره أكثر تشددا في الملف الإيراني من خلفه.
التحدي الاستراتيجي وربما «الوجودي» لإسرائيل ليس إيران، مهما امتلكت من أسلحة، بل شعب فلسطين، العصي على الاستسلام واليأس
لقد كان، وما زال، الهدف الرئيس لإسرائيل من التطبيع هو تهميش القضية الفلسطينية، والتوصل إلى «سلام» مع العرب بلا علاقة بها. وقد استغلت الدولة العبرية الأزمة النووية الإيرانية للتغلغل إلى العالم العربي، حاملة رسالة مفادها أن «إسرائيل قوية ليس خطرا على الأنظمة العربية، بل هي ضمان لبقائها». لقد عملت إسرائيل عمدا وبسبق إصرار على تضخيم «التهديد الإيراني»، النووي والتقليدي، لإيقاع العرب في مصيدة التطبيع، فوقع بعضهم فيها، ووقف آخرون تأكلهم الحسرة لأنهم ليسوا جاهزين للقفز إلى المصيدة الإسرائيلية، وبقي موقف المعارضة خافتا وضعيفا لا يحظى بدعم فعلي من أي دولة عربية.
التحدي الاستراتيجي وربما «الوجودي» لإسرائيل ليس إيران، مهما امتلكت من أسلحة، بل شعب فلسطين، العصي على الاستسلام واليأس، وهي تسخر كل طاقاتها وقدراتها لمحاصرته ولقمع حراكه التحرري. وبما أن إسرائيل غير ناضجة لأي نوع من التسوية مع الفلسطينيين، فيه تسعى إلى إدارة الصراع وكسب النقاط لصالحها، حتى يحين وقت تستطيع فيه حسم القضية وفق هواها، أو هكذا تتوهم. وقد حدد وزير الأمن الإسرائيلي في خطابه، الأسبوع الماضي، في مؤتمر «إرهاب في عين العاصفة»، الاستراتيجية الإسرائيلية بأنها المحافظة على حالة «كيانين» وليس دولتين. الكيان الأول هو إسرائيل كدولة يهودية قوية لها تحالفاتها الدولية والإقليمية، والكيان الثاني هو حكم ذاتي فلسطيني ممثل بالسلطة الفلسطينية. وإسرائيل تريد لهذا الحكم أن يبقى لأن انهياره سيفتح الباب أمام مطالبات بحقوق متساوية للفلسطينيين، ما يهدد كيان إسرائيل كدولة يهودية. في الوقت نفسه، الذي تريد فيه إسرائيل أن يبقى الحكم الذاتي الفلسطيني، فهي حريصة ألا يبقى للفلسطينيين حلفاء وداعمون. وإذا كان العرب تاريخيا في صراع مع إسرائيل وكانوا داعمين لشعب فلسطين، فإن الغاية المركزية والدافع الأول للتطبيع هي تفتيت الدعم العربي لفلسطين، وعزل شعبها لإضعافه وتسهيل مواصلة الهيمنة على حياته ومصيره. الهدف، بلغة إسرائيلية هو إنهاء «الصراع الكبير» مع العالم العربي، وإدارة «الصراع الصغير» مع الفلسطينيين، بمعزل عن الظهير العربي. لقد حلمت إسرائيل على مدى عقود طويلة بأن تقيم علاقات تطبيعية مع الدول العربية، بالالتفاف على قضية فلسطين. وكانت هذه الرغبة الإسرائيلية قائمة بذاتها وبالشدة نفسها قبل نشوء أزمة النووي الإيراني، وقد شخصت إسرائيل هذه الأزمة بأنها ثغرة في الموقف العربي يمكن النفاذ من خلالها لتربح الدولة العبرية مرتين: الربح الأكبر هو تهميش قضية فلسطين، والربح الثاني الأصغر وهو إنشاء حزام استراتيجي عربي حولها يساعدها في حماية نفسها من إيران ومن التمدد الإيراني.
لقد سقطت، بحكم التجربة وليس فقط برسم التحليل، مقولة المطبعين العرب وأبواقهم بأن علاقات الدول العربية مع إسرائيل تساعد في لجمها عن ارتكاب الموبقات بحق الشعب الفلسطيني، وبحق القدس والمقدسات. وقد كتب مئير بن شاباط، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي ومن صانعي التطبيع، ملخصا مسيرة التطبيع في العامين الماضيين: «لقد اجتازت اتفاقيات إبراهيم كل التحديات السياسية والأمنية التي فرضها الواقع في طريقها. فقد تمسكت قيادات الدول العربية، التي أقامت علاقات مع إسرائيل، بسياسة الاحتواء التي اعتمدتها في تعاملها مع المواجهات في قطاع غزة خلال عملية «حارس الأسوار» في أيار/مايو 2021، ومؤخرا خلال معركة «طلوع الفجر»، وإزاء ما يحدث في الضفة الغربية وحتى إزاء ما يحدث في المسجد الأقصى». فكيف بالضبط أثرت دول التطبيع في السلوك العدواني الإسرائيلي؟ من الواضح أن هذه الدول تكذب وتضلل لتبرير تخليها عن شعب فلسطين وعن قضيـته العادلة. وبعد الكذب يأتي الهذيان السياسي، حيث صرّح مصدر إماراتي مسؤول عشية زيارة عبد الله بن زايد لإسرائيل: «تلعب الإمارات دورا في دفع إسرائيل إلى تبني خيارات أكثر دبلوماسية للتعامل مع التهديدات الإيرانية». وكل من يعرف إسرائيل يعرف بأن موقف الإمارات لا يؤثر قيد أنملة في تبني إسرائيل لخيارات أكثر أو أقل دبلوماسية. دول التطبيع العربي لا تؤثر في الموقف الإسرائيلي لا في قضية فلسطين ولا في الملف الإيراني، وإن أثرت فهي تجعل الموقف الإسرائيلي أكثر تعنتا. تتعامل إسرائيل مع التطبيع العربي على أنه نصر ساحق لها ولسياساتها، وقد تبجح نتنياهو في حينه بأنه استطاع جرّ دول عربية إلى إنشاء علاقات مباشرة مع إسرائيل، من دون قيد أو شرط يتعلق بقضية فلسطين. وهكذا رمت هذه الدول «مبادرة السلام العربية» جانبا، ولم تبق منها سوى بندها الأخير، الذي ينص على تطبيع العلاقات مع إسرائيل بعد حل القضية الفلسطينية، ونفذوه قبل حلها، وحتى من دون أن تدفع إسرائيل ضريبة كلامية عن التفاوض والتسوية.
ما يميز موجة التطبيع الحالية أن دولها لم تخض صراعا مع إسرائيل، ولا تربطها بها حدود جغرافية، فكيف يكون «سلام» لم تسبقه مواجهة. التفسير الوحيد أن العالم العربي كان رسميا في صراع مع إسرائيل، بسبب قضية فلسطين، ما يعني منطقيا أن هذا السلام يقوم على تحييد قضية فلسطين، لكنه يقوم أيضا على تقويض مفاهيم العروبة والعربي والوطن العربي، لأن التخلي عن فلسطين يعني التخلي عنها. هذه، بلا مبالغة، ليست قضية 15 مليون فلسطيني، بل قضية 350 مليون عربي. المصيبة الكبرى هي أن موجة التطبيع ليست مرشحة للتراجع والانكماش، بل إلى التعميق والتوسع والانفلات، وتردد المصادر الإسرائيلية أنه من المحتمل أن تأتي موجة تطبيع جديدة تشمل دولا عربية وإسلامية مثل السعودية وموريتانيا وعمان والصومال وجيبوتي وتشاد وإندونيسيا وباكستان. وإذ يبدو هذا الاحتمال بعيدا فإن الأمور قد تتغير إذا عاد الثنائي نتنياهو وترامب إلى الحكم، وعاد إلى نصب مصايد تطبيع جديدة بالضغط والإغراء. ليس صحيحا أن خيار التطبيع هو خيار «اللا مفر» وأنه لا بديل عنه بالنسبة للأنظمة العربية في ظل «التهديد الإيراني» خليجيا، و»الخطر الجزائري» مغربيا و»العقوبات الأمريكية» سودانيا. لهذه الدول العربية خيارات متعددة أخرى منها الذهاب إلى الخيار العربي، الصعب لكن الممكن، عبر الدفع باتجاه بناء تضامن عربي لتشكيل رافعة للدفاع عن المصالح العربية في الساحة الدولية ولحماية الأمن القومي العربي بشكل جماعي. وهناك أيضا خيار التوصل إلى تفاهمات مع إيران أساسا ومع تركيا أيضا، ناهيك من إمكانيات الاستعانة بمساندة روسية وحتى صينية لتسهيل هذه التفاهمات.
على الرغم من صعوبة الوضع، يجب عدم القبول بمجريات الأمور، ويجب مواصلة المطالبة بإلغاء التطبيع والخروج من المصيدة الإسرائيلية، لأن الوقوع فيها لا يحمي أحدا، بل يزيد المخاطر، التي تتعرض لها الدول والأنظمة العربية. ويخطئ من يعتقد أن التخلي عن فلسطين والارتماء في الحضن الإسرائيلي يشكل حماية له.
رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48