لتنفيس الخطاب ....!

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 

لا يغيب عن الذهن الصورة النمطية التي يتعاطى بها الغرب مع العالم العربي كشعوب بدائية وسطحية من السهل خداعها بالكلام. صحيح أن للعرب دوراً في تأكيد هذا، فالكثير من خفايا تاريخ المنطقة محشو بما يكفي من سذاجة الحالة العربية في التعاطي مع وعودات وشيكات بلا أرصدة، كانت تلك واحدة من كوارث العرب التي دفعوا ثمنها غالياً.
يحضر هذا الآن وبعد كل تلك التجربة الحافلة مع الفلسطينيين الذين يعيشون منذ ثلاثة عقود على نفس الوعودات فيما يزداد مركبهم غرقاً، فالرئيس الأميركي الذي أفاق فجأة يكتشف أنه مؤيد لحل الدولتين ..يا للمفاجأة ..! ورئيس وزراء إسرائيل يائير لابيد هو الآخر مع حل الدولتين ....يحتاج المرء للدغة كي يصدق أن بايدن ولابيد متفقان وبشدة على الحل وتحولا فجأةً الى دُعاة السلام، بالتأكيد ليس طمعاً في جائزة نوبل بل أقل من ذلك بكثير، وهو أمر مخجل لكليهما أن يكون كل هذا الحديث من على منصة أعلى هيئة دولية ليس أكثر من نزع فتيل خطاب الرئيس الفلسطيني.
الأمر لا يحتاج إلى كثير من التحليل لمعرفة الأمر، فالرئيس الأميركي الذي قال مساعدوه قبل الفوز كلاماً مريحاً للفلسطينيين بهدف حشد أصوات الجاليات العربية لم يكن هو بعد الفوز، حين قزّم ملف الصراع ليضعه بيد موظف صغير في الخارجية الأميركية، مجرداً من أية صلاحيات سياسية، ولا تسعفه مكانته الوظيفية ليطلب لقاء مع رئيس وزراء أو وزير خارجية إسرائيل، فهو بالكاد يلتقي موظفين صغاراً يتحدث معهم عن بعض التسهيلات المعيشية. وكفى الولايات المتحدة شر السلام.
أما رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤقت الذي لم يستدعه التاريخ ليكون رسولاً للسلام، ولم يسمع منه أحد منذ عمله في الخارجية أو رئاسة الحكومة، ما يشي بأي حمائمية ولو عابرة، ولم يتهمه أي يميني إسرائيلي بأنه مؤيد للسلام، وقد حسم الأمر في الأسبوع الأول من تسلمه رئاسة الحكومة حين سئل عن لقاء الرئيس عباس رد قائلاً: إن لقاءً كهذا ليس على أجندته، والآن يعقد لقاءات في نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العامة، فيلتقي ملك الأردن والرئيس التركي ولا يلتقي الرئيس الذي سيقيم معه السلام....! يا للعجب.
كلاهما، بايدن ولابيد، لا يطمحان لأكثر من إدامة الوضع الحالي، استمرار الاحتلال واستمرار التعايش الفلسطيني معه وتمكين ذلك بمعادلة اقتصادية تقنع الشعب الفلسطيني بنسيان أي حقوق وطنية. ويمكن الطمع أكثر إذا ما اقتنع هذا الشعب بحب الاحتلال، لكن هذا الوضع كان ينتج معادلته النقيضة عندما وصل بصيرورته الطبيعية إلى مآلاته العادية وهي التصادم الحتمي بين القوميتين كما وصل لدى كل الشعوب التي عاشت تحت الاحتلال.
من راقب الرئيس الفلسطيني كان يستنتج أنه وصل الى مرحلة كف فيها عن ابتلاع الوعودات. فقد بدا غاضباً في الأشهر الأخيرة من الجميع عرباً وأوروبيين وأميركيين وإسرائيليين. ولأنه وحده صانع السياسة الفلسطينية لا نحتاج لمعلومات كي ندرك أن العام الذي أعطاه للعالم في خطاب الأمم المتحدة انتهى وسط تجاهل دولي وأميركي، ما زاد من غضبه، ولسنا بحاجة لمعلومات لنعرف أن مصداقيته تطلبت خطاباً يعبر عن حالة الغضب تلك ويقلب الطاولة في وجه الجميع.
التسريبات من بعض السياسيين الفلسطينيين كانت تشي بروح الخطاب، وهو ما أضاء الأضواء الحمر في تل أبيب وواشنطن، لأن أي تغيير في معادلة الوضع القائم ستفرض عليهم عبئاً سياسياً وأمنياً واقتصادياً أكثر كُلفة، وهم بغنى عن ذلك في وجود سلطة تقوم بكل تلك الأعباء وبأقل تكلفة ومن جيب دافع الضرائب الفلسطيني والجمارك الفلسطينية التي أصبحت للسخرية مادةً لابتزاز الفلسطيني. أرأيتم وضعاً أكثر سريالية من هذا؟ ولماذا لا يقلقون من خطاب ربما يغير هذه المعادلة؟
من هنا ولمعرفتهم أن الفلسطيني حطم رقماً قياسياً في تصديق الوعود، فماذا تضير جملة عابرة في خطاب آخر لن يسأل أحد عنها لحظة انفضاض مهرجان الأمم المتحدة الخطابي السنوي؟ لا أحد سيسأل الرئيس الأميركي، فلم يسأل أحدٌ رئيساً قبله حصل على جائزة نوبل للسلام عن دوره في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أما يائير لابيد الذي يخوض دعاية انتخابية وقد فتح اليمين المنافس نيران أسلحته بمجرد التسريب عن خطابه، يستطيع أن يعالج الأمر أمام الإسرائيليين ويقنعهم أنه أكثر ذكاءً من كل أسلافه في تمرير الخداع وهو من رفض لقاء أبو مازن.
هل سيتراجع الرئيس ويصدق عكس كل من شاهد وسمع وجرّب لثلاثة عقود لمجرد جملة عابرة؟ من المشكوك فيه لرجل أعطى من الفرص أكثر مما ينبغي وعرضته للكثير من الانتقادات الفلسطينية، ذهب في محاولة السلام أبعد مما ينبغي ولم يغلق نافذتها حتى بعد أن أعلنتها إسرائيل بلا رجعة. لكن الآن من المشكوك فيه أن يتراجع وأن يكذب عقله وقلبه وعينيه وأذنيه وحسه الذي أنجبته ثلاثة عقود من خذلان التجربة، والتي كان أصدق تعبير عنها كل تلك المعارضات الصادقة لتصريح لابيد، وأكثرها وضوحاً بيان حزب الليكود كأكثر من قاد حكومات إسرائيل منذ عملية التسوية القائل بأن «الدولة الفلسطينية خطر على إسرائيل». تلك هي الحقيقة الأكثر سطوعاً من خطاب بار ايلان الذي تجلت كل نقائضه على الأرض، كان الرئيس أكثرنا شاهداً على تلك التجليات، ولا أحد يعتقد أن الرئيس سيلدغ من ذات الجُحر مئات المرات.
يتطلع الفلسطينيون اليوم لخطاب مختلف يلخص تلك التجربة المريرة ويفتح صفحة جديدة تعيد تصويب البوصلة التي اختل مؤشرها، ولن يحصل للفلسطينيين أكثر من هذا الخراب الذي يحيط بهم، وبات من الضروري الخروج من المعادلة الراهنة التي تزيد من غرق المركب. آن الأوان لأن تتجلى حقيقة أخرى اليوم وعلى لسان رأس النظام السياسي، حتى لا تتكرس تلك الصورة النمطية بأن الفلسطيني على هذه الدرجة من السذاجة في ممارسة السياسة ...كفى .!