ثمة أسباب كثيرة تقف وراء إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التعبئة الجزئية من قوات الاحتياط وممن يمتلكون خبرات عسكرية وقتالية، لاستكمال ما تعتبره موسكو عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا حتى تحقيق الأهداف الروسية.
الإعلان الروسي هذا يشكل انتكاسة للقوات الروسية التي تحارب في أوكرانيا منذ سبعة أشهر، ويتزامن مع إعلان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن استعادة قواته 6 آلاف كيلومتر مربع في جنوب البلاد وشرقها.
في البداية تجنبت موسكو كل الوقت الحديث عن حرب على أوكرانيا والتركيز كان حول «عملية عسكرية خاصة»، وحتى الرئيس بوتين لم يتطرق في خطابه المتلفز قبل ثلاثة أيام إلى حرب واسعة النطاق، وإنما اكتفى بتحذير الغرب من مواصلة دعم أوكرانيا ولوح بالسلاح النووي.
في دوائر صنع القرار، اعتقد السياسيون والعسكريون الروس أن العملية العسكرية في أوكرانيا سهلة وستحقق أهدافها بسرعة، غير أن تدخل الولايات المتحدة الأميركية والغرب وتقديم الدعم الكبير جعل من هذه العملية العسكرية أمرا في غاية الصعوبة.
حينما يستنفر الدب الروسي لاستدعاء 300 ألف من جنود الاحتياط في تعبئة لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، فهذا مؤشر حقيقي على أن موسكو رفعت سقف هذه العملية العسكرية وأعلنتها حرباً حتى تحقيق الأهداف المطلوبة.
من بين الأسباب التي استدعت بوتين اتخاذ قرار التعبئة الجزئية يتعلق بالوضع الداخلي، إذ تأثرت مصداقية روسيا العسكرية على خلفية الانتكاسات التي منيت بها في ساحة المعركة مع القوات الأوكرانية المدعومة من الغرب.
في الداخل الروسي، ثمة أصوات تتعالى يوماً بعد يوم تطالب بوتين بوقف الحرب المستمرة حالياً، وإعلان التعبئة العسكرية يراد منه تعبئة مثيلة في صفوف الجماهير الروسية للوقوف خلف قيادتها ضد ما يعتبره الرئيس الروسي حرباً ضد المصالح الحيوية لبلاده.
سبب آخر لقراره مرتبط بالصراع مع الغرب، وهذه المرة سيضع بوتين كل إمكانيات بلاده لتحقيق الحد الأدنى من الأهداف في الحرب على أوكرانيا، لأنه يعتقد أن خسارة هذه المعركة ستعني انتهاءه سياسياً وهزيمة روسيا وتقهقر دورها كلاعب مزاحم ورئيسي في الساحة الدولية.
كذلك حينما ترتفع نبرته وتحديه للدول الغربية، فهذا يشي أن الرئيس الروسي حدد خطوطه الحمر وكأنه يقول للغرب الأميركي والأوروبي: إياكم وإرسال معدات عسكرية استراتيجية لكييف، ويبقى التلويح بالسلاح النووي خياراً روسياً مطروحاً على الطاولة.
التهديد الروسي يتزامن مع رغبة بوتين في إجراء استفتاء في الأقاليم الانفصالية الأوكرانية (لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوريجيا) لضمها إلى روسيا على غرار ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وكان يفترض أن يجرى الاستفتاء في هذه الأقاليم يوم الرابع من تشرين الثاني المقبل المصادف يوم الوحدة الوطنية الروسية الذي يحيي ذكرى ثورة شعبية قبل 300 عام.
للداخل الروسي وللعالم، يريد بويتن الخروج من هذه الاستفتاءات بإنجاز يضمن له الوحدة الوطنية والتفاف الرأي العام حوله، ودولياً يجد في ضم هذه الأقاليم قوة تضاف إلى المعركة الحالية ضد أوكرانيا والغرب، وتوجيه صفعتين بدل الصفعة التي تلقتها القوات الروسية في أوكرانيا.
من المحتمل أن تشهد الأيام المقبلة توتراً كبيراً في شرق وغرب أوكرانيا، وفي ذات الوقت ستعمل موسكو المستحيل من أجل إعادة السيطرة على الأراضي التي فقدتها في المعارك الأخيرة، انطلاقاً من الاستنفار في الجهازين الحكومي والعسكري الروسي.
عدا عن إعلان التعبئة الجزئية، جلس بوتين مع قادة عسكريين ومدراء مصانع تصنيع الأسلحة، ودعاهم لرفع طاقتهم الإنتاجية من أجل سد أي نواقص في الإمدادات العسكرية، وقد يكون هذا مؤشراً على أن الحرب ستطول.
حينما تقف موسكو في وجه الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية لحماية مصالحها الاستراتيجية من الساحة الأوكرانية، وحينما تُحرّك وجهة اقتصادها نحو الشرق وأسواق جديدة، وتقلل الاعتماد على السلع الأوروبية وتهددها بوقف الغاز، فإن ذلك يعني أن روسيا ماضية ومُصممة على تحقيق أهدافها بأوكرانيا إن عاجلاً أم آجلاً.
وكذلك ستفعل الولايات المتحدة المستحيل حتى تكسر شوكة الروس في أوكرانيا، ففي النهاية ليس هناك من شيء تخسره واشنطن غير تقديم المال والسلاح، لكن هناك أهم من هذين الأخيرين ألا وهو إبعاد روسيا عن التنافس حول شكل النظام الدولي وتحويلها من دب إلى قط مسالم.
من الصعب الحديث عن إنجازات عسكرية روسية في الأيام المقبلة، لأن مسألة دمج جنود الاحتياط في القوات النظامية يحتاج إلى وقت وتدريب مُكثّف، لكن على الجانب السياسي هناك فرصة كبيرة لمسألة ضم الأقاليم الانفصالية الأوكرانية لروسيا وهذا قد يتحقق في بحر الأسبوع.