ليس من الصعب الإجابة عن سؤال ما بعد ضمّ روسيا للأقاليم الأوكرانية الأربعة (دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون)، ارتباطاً بقرار موسكو ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 واعتبارها امتداداً لسيادة ووحدة الدولة الروسية.
قرار ضم هذه الأقاليم إلى موسكو، بعد استفتاء أجاز انحيازها للدولة الروسية، يشكل إنجازاً كبيراً للرئيس فلاديمير بوتين وسياسته الخارجية، خصوصاً بعد تكبّد قواته خسائر كبيرة في الحرب المستمرة على أوكرانيا، وإعلانه النفير العام تحت بند التعبئة الجزئية.
بوتين كان يخطط، منذ قرار بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، لضم منطقة دونباس الواقعة شرقاً، باعتبارها في المفهوم الروسي جزءاً من ثقافتها وتاريخها القديم، وكون ساكنيها ينطقون باللغة الروسية ويميلون إلى الانفصال عن أوكرانيا.
فصل الأقاليم الأربعة عن أوكرانيا سيعني كارثة على الأخيرة، خصوصاً عند الحديث عن انتزاع 20% من مساحتها الإجمالية وضمها إلى الدب الروسي، بعدد سكان يبلغ حوالى 8 ملايين نسمة واقتصاد كبير يتجاوز 20% من حجم الاقتصاد الأوكراني.
مراكز الصناعات الثقيلة والآلات والبتروكيماويات وشركات التعدين موجودة في الأقاليم الأربعة (خيرسون وزابوريجيا ولوغانسك ودونيتسك)، وهناك مطار دولي مهم يعتبر الثاني بعد مطار العاصمة كييف موجود في دونيتسك الغنية أيضاً بالموارد الطبيعية وإنتاج الطاقة الكهربائية.
الحديث يدور عن أقاليم غنية بالفعل بالموارد الطبيعية والإمكانيات الاقتصادية الكبيرة، وفيها تقل البطالة عن باقي المدن الأوكرانية، وتشكّل عصب الاقتصاد الأوكراني المتقدم، ولذلك تعتبر مسألة اقتطاعها وضمها إلى روسيا خسارة كبيرة وضربة مؤلمة لأوكرانيا.
بالنسبة لكييف كالعادة، لا يمكنها فعل شيء سوى الاستنجاد بالولايات المتحدة الأميركية وأوروبا لتقديم المساعدة لها، وكذلك لن تفعل الدول الغربية أكثر من فرض عقوبات جديدة على روسيا ودعم أوكرانيا بالمال والسلاح.
بوتين، قبل استباق قرار ضم الأقاليم الأوكرانية إلى بلاده، هدّد العالم الغربي باحتمال استخدام السلاح النووي، أولاً حتى يمنع الغرب من إرسال أسلحة إستراتيجية إلى أوكرانيا، وثانياً حتى لا تكون هناك قرارات دولية تعسفية ضد روسيا تمنع من ضمها الأقاليم.
في كل الأحوال لن تتراجع روسيا عن قرار الضم هذا، وستشن حملة عسكرية للسيطرة على مناطق أوكرانية أخرى بهدف التفاوض عليها لاحقاً مع الغرب، إنما ستعتبر الأقاليم الأربعة جزءاً من وحدة وسلامة أراضيها.
على الرغم من أن الرئيس الروسي فشل عسكرياً في تحقيق إنجاز سريع يبرهن فيه للعالم حجم وقوة الترسانة العسكرية الروسية، إلا أنه عوّض عن هذا الفشل بإنجاز سياسي إستراتيجي قد يحدث تغييراً في ساحة المعركة لصالح القوات الروسية.
في الأعراف الدولية لا يهم متى تبدأ الحرب، لكن يهم كيف تنتهي وبأي شكل من الأشكال، ويبدو أن روسيا حققت انتصاراً كبيراً بضم الأقاليم الأربعة إليها، لأن ذلك يشكل قيمة مضافة إلى الاقتصاد الروسي والجغرافيا والديموغرافيا الروسية أيضاً.
الولايات المتحدة الأميركية مستفيدة من هذا الوضع في أوكرانيا، لأن ذلك يعني زيادة تبعية أوروبا لها، وتحكماً أميركياً في مصير دول الاتحاد الأوروبي بما يحقق مصلحتها أولاً. ثم إن تكاليف دعم وتسليح أوكرانيا سيقع على عاتق الجميع وليس فقط واشنطن.
الولايات المتحدة تحارب روسيا بالجنود الأوكران، وتسهم مع أوروبا في دعم الرئيس زيلينسكي وتمنعه من التفكير في التفاوض مع الروس، لأن مصلحة واشنطن تقضي بإضعاف روسيا اقتصادياً، وإنهاء كل أشكال العلاقة الاقتصادية بين الأخيرة ودول الاتحاد الأوروبي.
ما يحدث هو أن واشنطن ورّطت أوكرانيا في حرب مع روسيا، وشيطنت الأخيرة حتى تبعدها ولو قليلاً عن ميدان التنافس المقبل مع الصين، إذ ترى الولايات المتحدة أن الحفاظ على منصب زعامة العالم يأتي بإضعاف روسيا وجرها في صراع مع جارتها أوكرانيا، والتركيز على فتح جبهة صراع مع الصين.
نعم، عين واشنطن على الصين، وحيث لا يمكنها فتح النار على دولتين عظميين في ذات الوقت، لذلك ترى أن المحطة الأولى تقضي بتحييد موسكو عبر إلهائها بمسألة الحفاظ على غنائمها في أوكرانيا، وإطالة أمد الحرب إلى حيث لا تنتهي سريعاً.
الرئيس الروسي لن يعطي اهتماماً كبيراً لغضب العالم الغربي على ضم بلاده الأقاليم الأوكرانية، ولن يتراجع عن قراراته بهذا الشأن، ومن المرجح أن يحاول في الأيام أو الأسابيع المقبلة السيطرة على مناطق أوكرانية جديدة، وجعل زيلينسكي يقبل مرغماً بسياسة الأمر الواقع الروسية.