بعد 109 أيام من الهبة، وبعد سقوط 150 شهيداً و16 ألف مصاب، مقابل 29 قتيلاً و491 مصاباً إسرائيلياً، لم تتزحزح دولة الاحتلال قيد أنملة عن مواقفها السياسية العدمية، فأبقت على الانسداد السياسي محكماً، واحتفظت بتعنتها وأضافت له عقوبات جماعية ولم تتعرض إلى أي شكل من أشكال الضغوط الأميركية والأوروبية والعربية.
بقي الحل الأمني وحيداً وسيداً للموقف بالنسبة لحكومة نتنياهو، في حين ازداد الجمهور الإسرائيلي خنوعاً لروح الاحتلال، فقد أيد 44% من الإسرائيليين فرض القانون الإسرائيلي جزئياً على الضفة الغربية، وأيد 69% من معسكر اليمين فرض القانون الإسرائيلي تدريجياً.
وإذا ما أخرجت الفئة العربية من العينة تكون نسبة من يؤيدون فرض القانون من بين إجمالي اليهود الإسرائيليين أكثر من 50%، وفي كل الأحوال فإن نسبة المعارضين للضم لا تتجاوز 38% من الإسرائيليين بوجود فلسطينيي الـ 48 ضمن العينة.
الاستطلاع المبين أعلاه والذي نشرته صحيفة «ماكور ريشون» الإسرائيلية، يظهر موقفاً رسمياً وشعبياً إسرائيلياً مؤيداً لضم الضفة. وعلى أرض الواقع تبدو المصيبة أعظم حين نجد 70% من أراضي الضفة المسماة «سي» احتسبت أراضي دولة وأراض ملحقة بالمستوطنات، علماً أن تلك المناطق المصنفة «سي» تشكل 61% من مجمل مساحة الضفة الغربية، وحين نجد المخططات قيد التنفيذ فإنها ستأتي على البقية الباقية من مشروع إقامة دولة فلسطينية.
جميع الأطراف المعنية بالصراع بما في ذلك «الوسيط» الأميركي المحتكر الأكبر للعملية السياسية منذ 21 عاماً، لا تختلف حول ما يجري على الأرض، ولا تختلف في رؤية المآل الذي سيذهب إليه الصراع، لكنها تحافظ بثبات وهدوء على دورها في إبقاء مسار أوسلو على حاله برغم كل ما جرى ويجري.
إذا كان هدف إنهاء الاحتلال وإقامة دولة عبر التفاوض انتهى وأخفق أيما إخفاق، فهل يمكن تحقيق ذلك الهدف عبر الأمم المتحدة ومن خلال مؤتمر دولي؟
الجواب «لا»، والسبب قد لا يكون مُخْتَلَفاً عليه، وهو أن الذين احتكروا التفاوض عقدين ونيف من الزمن وأوصلوه إلى نتيجة «صفر حل»، هم الذين يسيطرون على القرار الدولي ويرفضون بل ويتعهدون بإفشال ومنع أية مساعي خارج إطار ذلك التفاوض الثنائي المنحوس.
ولسان حالهم يقول للقيادة الفلسطينية: اجمعي ما شئت من قرارات، وادخلي ما شئت في المنظمات الدولية، وقدمي التقارير والملفات التي ترغبين، لكنك لن تحصدي غير الفشل والمزيد من الفشل والإخفاق. ما يمكن قوله هنا: إن المعركة الدبلوماسية على أهميتها، لن تحقق وحدها الهدف الفلسطيني المركزي وهو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وفي أحسن الأحوال قد تبطئ قليلاً من الاندفاعة الإسرائيلية المجنونة لكن من المرجح أنها لا تستطيع إيقافها.
دولة الاحتلال، في ظل هكذا وضع، تعلن سلطات الاحتلال بصريح العبارة، أنها تريد وتعمل على بقاء السلطة الرسمية وأدوارها على ما هي عليه، وتريد وتعمل على بقاء سلطة حماس في قطاع غزة على ما هي عليه أيضاً، في الوقت الذي نزعت فيه كل مبررات ووظائف السلطة الجوهرية وهي الانسحاب من الأرض الفلسطينية ونقل صلاحيات سلطة الاحتلال من «الإدارة المدنية» إلى سلطة فلسطينية وتمكين الشعب من تقرير مصيره.
كانت بداية الانسحاب من مدن وبلدات وقرى ومخيمات، وقد جرى تسليم بعض الصلاحيات واستبقاء صلاحيات أخرى، وانتقل عمل الإدارة المدنية من الصدارة إلى الظل، وكانت السلطة الفلسطينية تعتقد أن ما تحقق لا يعدو كونه خطوة سيتبعها خطوات ضمن مسار تفاوضي سيؤدي إلى إنهاء الاحتلال.
وقد جرى تبرير التنسيق الأمني والقبول بجزئيات والسكوت على الانتهاكات بما في ذلك مصادرة أراض وتوسيع الاستيطان وبناء شبكة طرق التفافية وإغلاق القدس بالكامل أمام المواطنين، بدعوى أن الحل النهائي سيؤدي إلى تجاوز كل هذه الفجوات الكبيرة والصغيرة وكل النهب والانتهاكات والخروقات الفادحة.
بعد عام 2000 وصعود شارون للحكم وبعد استباحة حصانة ياسر عرفات الحاصل على جائزة «نوبل للسلام» واستباحة الأرض بالطول والعرض وبناء جدار الفصل العنصري وتحويل قطاع غزة إلى أكبر معسكر اعتقال جماعي في العالم، في ظل الشروط الجديدة أعلن عن مقايضة جديدة بقيادة الرئيس الأميركي بوش الابن، ولم يكن حظها بأفضل من سابقتها، بل لقد توجت بإعلان إسرائيلي صريح رافض لإنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان، ومدعم بالوقائع المتراكمة على مدى ما يقرب من نصف قرن من الاحتلال الكولونيالي الإقصائي.
ما أود قوله هنا: إن سلطات الاحتلال عصفت بكل أدوار ومبررات السلطة وطنياً، كإنهاء الاحتلال والتراجع عن الاستيطان وبناء الدولة المستقلة وتحرير الاقتصاد من علاقات التبعية – نسبياً، لكنها حافظت على تلك الأدوار التي تساعدها على التخفيف من الأعباء المناطة به كسلطة احتلال، ولم تترك شيئاً يمكن أن يحفظ ماء وجه السلطة، بعد أن أصبح كل شيء يتعلق بالمواطنين الفلسطينيين مناطاً بالإدارة المدنية التي كان من المفترض أن تحل، وبعد أن ساء الوضع الاقتصادي إلى مستوى أدنى فأدنى وألحق بالاقتصاد الإسرائيلي في إطار علاقات تبعية شاملة، فضلاً عن تعميق الاحتلال ومضاعفة الاستيطان وفرض نظام الفصل العنصري.
دولة الاحتلال تطرح موقفاً واضحاً لا لبس فيه يتمثل بتثبيت حالة السلطة ضمن الأدوار التي يستفيد منها الاحتلال ويوظفها في تدمير المشروع الوطني بكل مكوناته، وهي بهذا المعنى تعتبر بقاء السلطة على ما هي عليه مكسباً استثنائياً كونها تفرض حلها بغطاء وجود سلطة منزوعة الصلاحيات، ولا تقوى على فعل أي شيء.
هذا يطرح سؤالاً في غاية الأهمية، وهو: هل تقبل منظمة التحرير كمرجعية للسلطة بقاء قواعد اللعبة المفروضة إسرائيليا؟ وهل باتت عاجزة عن إزالة الغطاء والتمرد على قواعد اللعبة التي دفع الشعب في الداخل والخارج أثماناً باهضة على امتداد كل الفترة السابقة؟
إن التمرد له أثمان كبيرة، مثلاً بقاء السلطة يعطي شرعية تسمح بتفعيل مؤسسات الأمم المتحدة والانضمام للاتفاقات والمعاهدات التي يمكن استخدامها ضد دولة الاحتلال، وبقاء السلطة يسمح باستمرار الدعم المالي الذي يستفيد منه بشكل مباشر وغير مباشر فئات واسعة من المواطنين، وبقاء السلطة يحافظ على نوع من الاستقرار والنظام والبديل عن ذلك هو الفوضى.
لا يمكن مقارنة هذه الفوائد الكمية المحدودة، بالفوائد النوعية التي تجنيها سلطات الاحتلال.
لا يمكن القبول بخسارة مشروع وطني بكل عناصره مقابل مكاسب اقتصادية محدودة ومكاسب سياسية معنوية عائمة، وهذا يفسر لماذا تحرص سلطات الاحتلال على بقاء هذه المعادلة.
إن بقاء المعادلة على حالها أو الاكتفاء بتعديلات لا تمس جوهر الاحتلال، يعني تسليماً بالأمر الواقع.
لقد مضى وقت طويل، كان يسمح بالاستعداد لمثل هذه النقلة، مضى الوقت وما زال يمضي دون فعل أي نوع من الاستعداد، ولم يعد البقاء ضمن قواعد الأبارتهايد مقبولاً أو مبرراً، ولم يعد عدم الالتفات للبناء الداخلي مقبولاً أو مبرراً.