مرت أيام شديدة السخونة على الضفة تلاها هدوء حذر لا يستبعد انفجارا جديدا، ذلك بعد أيام من حرب الأيام الثلاثة التي وقعت على غزة، واذا كانت الضحايا الفلسطينية تحصى بالأرقام ففي هذا العام الذي لم ينقض بعد، تجاوز العدد ما سبقه من شهداء وجرحى ومعتقلين، ما وجه للعالم رسالة مفادها.. ان لم نكن في غمار انتفاضة فنحن على أبوابها، وان لم تكن متصلة ومتصاعدة وواسعة كالانتفاضات التي حدثت قبلها، فالعالم بما في ذلك إسرائيل يقر بأن نارا تحت الرماد، ان خبت بعض الوقت فلا مناص من الاشتعال في وقت آخر، ولم تخترع بعد ساعة التوقيت التي تقول متى.
الشهور القليلة التي انتقلت فيها كرة النار من غزة الى الضفة ، كانت شهور المآتم والجنازات وكان للأطفال نصيب وافر منها، ذلك ان الاجتياحات الإسرائيلية والمداهمات المسلحة تتم كلها في امكنة مأهولة بالناس وليست في صحراء خالية.
المآتم والجنازات ونزيف الدم احتلت المكان الأبرز في الاخبار ليس في فلسطين وحدها وانما في العالم كله، وفي ذات السياق كانت اخبار وصور ملتقى لم الشمل الذي التأم في الجزائر تتسلل خجولة الى المشهد، وما ان كانت تُرى ضحكات وممازحات المشاركين مع انفسهم، حتى تطفأ الشاشات احتجاجا او استياءً من مشهد متكرر، رأى الناس مثله في كل العواصم التي استضافت فنادقها الفاخرة وفود المنقسمين، الذين يلبون بحماس شديد أي دعوة من أي جهة جاءت ليس لانهاء الانقسام، بل لتسويقه وتعميقه وضمان عدم التخلص منه، هذا ليس استنتاجا بل حقيقة اكدتها وقائع تاريخ الانقسام الذي بلغ عمره خمس عشرة سنة، وما انتجته حوارات الفنادق والعواصم.
حسن نية المضيفين لا جدال فيها فما الذي تستفيده مصر لو بقي الانقسام الاشبه بورم سرطاني على حدودها، وما الذي يضر موسكو لو نجحت في لم شمل اصدقاءها الفلسطينيين، وما الذي يبهج اليمن اكثر من ان يزف رئيسها الراحل علي عبد الله صالح مأثرة انهاء الانقسام في البلد الذي كان يسميه عرفات بالشطر الثالث، ذلك قبل ان يتوحد الشطران الشمالي والجنوبي دون ان يتوحد شمالنا وجنوبنا.
وما الذي يضر السعودية لو نجحت جهودها في التوحيد بعد مؤتمر لم الشمل في مكة الذي اقسم فيه المنقسمون على ان يتوحدوا وهم تحت استار الكعبة، وما ان عادوا من رحاب الرسول الكريم الى ارض الوطن طوروا الانقسام الى انقلاب، وأخيرا وربما ليس آخرا ما الذي يريده الجزائريون اكثر وأهم من ان يزفوا لمؤتمر القمة الذي سيستضيفونه نبأ توحيد الفلسطينيين لعله يفتح الطريق لتوحيد الامة!
كل المتدخلين رغبوا حقا في النجاح، الا ان الضيوف رعاة الانقسام لم يشاطروهم الرغبة ، لقد استهواهم الفراغ الذي يعانون منه على ارضهم وبين شعبهم كي يواصلوا هواية تلبية الدعوات التي تنتج بيانات وعناقات الا انها تنتج بالمقابل انتظارا جديدا لدعوات استضافة في أماكن أخرى، وهكذا فالسياحة في حالة الفصائل افضل بكثير من البطالة المقنعة بشرعية متقادمة اكل الدهر عليها وشرب، ولم يبق منها سوى ادعائها والتغطي بها.
كلمة سر الفشل المتمادي والذي زاد عمره عن خمس عشرة سنة والف لقاء ولقاء تبدأ بالعنوان الخطأ الذي يتلقى الدعوات، كان صحيحا وفعالا زمن الثورة التي كانت الجزائر ترفع من اجلها شعار " نحن مع فلسطين ظالمة او مظلومة"، وكان عنوانا صحيحا حين كان الكبار المؤسسون يذهبون الى الجزائر متفقين كي تعلن اتفاقهم في مجلس وطني تاريخي يجتمع فيه كل الفلسطينيين من الوطن والشتات، ومن حملة السلاح الى حملة الأفكار والاقلام ورواد الثقافة والابداع على مستوى العالم كله ، كانت دول وأحزاب من العالم كله تتسابق على حضوره والتقاط الصور مع قادته ورموزه، وكانت الجزائر تعتبر المجلس الوطني الفلسطيني حين يعقد على ارضها حدثا وطنيا خليقا بمحاكاة المليون ونصف مليون شهيد، الذي انتج استقلال البلد وحرية شعبه وتأكيد مكانته.
اين هي الحالة الفلسطينية الراهنة من ايقاعات الزمن الذي انقضى، وأين هم أولئك الذين رفعوا شعار نختلف معك ولا نختلف عليك، الم يكن ذلك الشعار الذي نحته جورج حبش في وصف علاقته بياسر عرفات، ضمانة قوية وعميقة من ضمانات الوحدة، واستبعادا نهائيا للانشقاق والانقسام. في ذلك الزمن كان الاختلاف ظاهرة صحية مفيدة وديموقراطية، لأنه كان يُمارس في حاضنة وطنية سليمة ونظيفة ومسؤولة، اما ما نحن فيه الان فالامر اختلف كثيرا وعميقا ففي زمن الانقسام المستديم وطويل الأمد ها هي الحالة الفلسطينية تراوح ما بين مأتم في الضفة وعرس ضاحك ساذج في الجزائر، وهل هنالك من اغتراب عن الحق والحقيقة والواقع غير هذا فأجيبي ايتها الفصائل.