مضى على خطاب فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة أكثر من شهر، وهو فترة تبدو كافية لاستطلاع ما أحدثه هذا الخطاب من تأثير في الحالة الفلسطينية وردود فعل إقليمية ودولية.
قوبل الخطاب من صف من المحللين والمراقبين الفلسطينيين، وكذلك من عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بالترحيب الحار، والتأكيد غير المحدود، باعتباره نجح في شرح المظلومية الفلسطينية أمام الرأي العالمي، وهو ترحيب أعد له، ككل مرة، قبل الخطاب وقبل الاطلاع على مضمونه، بدعوى أن كل خطاب فلسطيني رئاسي هو بالضرورة خطاب تاريخي.
غير أن الذين ذهبوا بعيداً في الترحيب والمديح، غاب عن بالهم، أو أنهم تقصدوا أن يغيبوا عن بالهم أن المرارة التي تحدث بها الخطاب عن المظلومية الفلسطينية، ما كانت في حقيقة الأمر، سوى تعبير لصاحب الخطاب عن خيبة أمل مريرة، مما وصل إليه مشروع أوسلو ورهاناته، والتي مضى عليها أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، تراجعت تطبيقات الاتفاق، وتعطلت فيها ما يسمى بمفاوضات الحل الدائم، التي يفترض أن تؤدي إلى الانفكاك بين طرفي الاتفاق، بل أكثر من هذا، تخلت إسرائيل، من طرف واحد، عن التزاماتها نحو الاتفاق وعن استحقاقاته، وبقيت الالتزامات والاستحقاقات مفروضة على الجانب الفلسطيني وحده، في ظل تصعيد إسرائيلي دموي، ومتاجرة بحياة الفلسطينيين ومصالحهم، في لعبة التنافس غير المبدئي بين أطراف الحرب الإسرائيلية على مقاعد الكنيست، في ظل رد فعل باهت من جانب السلطة الفلسطينية، ما أدى إلى تحقيرها في أعين مواطنيها، وفقدان الثقة بها، وبقدرتها على إنقاذ المشروع الوطني من التلاشي تحت ضربات الاستعمار الاستيطاني ونظام الاحتلال العنصري الفاشي.
وحتى الحديث عن التدخل لتعطيل قرارات المجلس الوطني والمركزي منذ العام 2015، ما كان إلا تعبيراً عن خيبة أمل، من سياسات الولايات المتحدة وإسرائيل، التي لم تقابل هذا التعطيل بخطوة مقابلة تنم عن الامتنان بما تقوم به السلطة الفلسطينية، في كبح جماح الشارع الفلسطيني والمؤسسة التشريعية وتعطيل قراراتها، التي قضت بمغادرة أوسلو وكل التزاماته واستحقاقاته السياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها ...
الذين رحبوا بالخطاب وأشادوا به، دعوا إلى تطبيق ما حمل من «قرارات وتوجهات»، وقد حاولت تحيات الترحيب هذه إسقاط رغباتها على الخطاب. فقالت أنه حمل توجهاً لإنهاء العمل بـ«اتفاق أوسلو»، وإعلاناً بعزم صاحب الخطاب على الدفع باتجاه تطبيق قرارات المجلسين الوطني والمركزي، وتخلياً عن صيغة التفاوض برعاية الرباعية الدولية لصالح صيغة المؤتمر الدولي برعاية الأمم المتحدة وإشرافها، وبموجب قراراتها ذات الصلة، واستئناف تنسيب دولة فلسطين إلى الوكالات الدولية ذات الاختصاص، والتقدم بطلب رسمي إلى الأمم المتحدة لتوفير الحماية لشعب فلسطين وأرضه في مواجهة الاحتلال وعدوانه.
وكان المتوقع وفق هذه «الإسقاطات» على الخطاب الفلسطيني في الأمم المتحدة، أن تشمّر اللجنة التنفيذية عن ساعديها، وأن تطلق ورشة تضع فيها خطط وآليات العمل لتطبيق ما جاء في الخطاب من «إسقاطات» في المحافل الدولية، وفي الميدان، وقلب الطاولة في وجه التحالف الأميركي - الإسرائيلي.
ما حصل حقيقة، أنه بعد أن أطفأت قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة أنوارها، وانفض السامر، وعاد كل إلى مواقعه. حمل حقيبته حسين الشيخ، أمين سر اللجنة التنفيذية، ورئيس دائرة المفاوضات فيها، ووزير الشؤون المدنية في حكومة سلطة الحكم الإداري الذاتي، ومن خلف ظهر اللجنة التنفيذية، وبقرار منفرد من القيادة الرسمية، طار إلى واشنطن، حيث – كما يبدو – أراد «شرح» الخطاب، خوفاً من «سوء فهمه» من الدوائر المعنية في الإدارة الأميركية، وكما أوردت التقارير المتعددة التي نقلت ما جرى في واشنطن، أن الشيخ اشتكى التصعيد الإسرائيلي، وشرح مدى الإحراج الذي يسببه للسلطة في أعين المواطنين.
تضيف التقارير أن الشيخ سمع في واشنطن ما يلي:
«لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب، عليكم وقف الإرهاب ووضع حد له، هذه مهمة السلطة»، وعندما حاول الشيخ تبرئة السلطة من الإرهاب، خاصة بعد ما قيل أن أفراداً في الأجهزة الأمنية «ضالعون في الإرهاب» قيل له: «أوقفوا التحريض، عليكم منع التحريض ضد إسرائيل، لأنه يؤجج الدعوات للإرهاب».
وعند الانتقال إلى بحث الأوضاع الاقتصادية، في مناطق السلطة وأزمتها المالية، وضرورة «عودة المساعدات الأميركية» التي كان قد أوقفها ترامب، وما زالت معطلة. قيل للشيخ: «نحن نقدم مساعدات لبعض الجمعيات التي نثق أنها تخدم التسامح والسلام. على السلطة أن تؤكد لنا أنها أوقفت دعمها للإرهاب، وأنها أوقفت مساعداتها للقتلى والموقوفين الأمنيين لدى إسرائيل».
واتفقت التقارير التي أبدت اهتماماً بزيارة حسين الشيخ إلى واشنطن، أنه عاد بخفي حنين.
دُعِيَ لاجتماع اللجنة التنفيذية، وكان من الطبيعي أن يكون على جدول أعمالها زيارة نيويورك، وزيارة واشنطن، بعدها أدلى كل من أعضاء «التنفيذية» بدلوه في بئر الكلام، حيث جفت الاقتراحات والقرارات، وبعد طول حديث وإعادة التأكيد على ما تم التأكيد عليه سابقاً، ودون اتخاذ أي موقف، ودون أية توجهات لترجمة ما جاء في خطاب نيويورك، دعي لاجتماع «لجنة المتابعة»، وهي هيئة يتم اللجوء إليها عند المناسبات الحرجة، وتضم اللجنة التنفيذية، وصفاً من كبار الأعضاء في فتح (أعضاء في اللجنة المركزية للحركة + رئيس الحكومة وعدد من الوزراء + كبار ضباط الأجهزة الأمنية + وآخرين ...) أي خليط من الأعضاء بعضهم يتمثل «الشرعية» الفلسطينية، وبعضهم يعكس طبيعة النظام السياسي الفلسطيني المشوه، حيث تقوم التركيبات والتشكيلات بقرار منفرد، وتموت بقرار منفرد، تقوم في خدمة مرحلة تكتيكية، وتموت عند انتهاء المرحلة التكتيكية التي لأجلها قامت.
أمام ضغط الشارع، وضغط التصعيد الإسرائيلي، وجدت بعض الأصوات العاملة ضرورة وقف التنسيق الأمني حفاظاً على وحدة الحالة الفلسطينية، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، غير أن قادة الأجهزة الأمنية اعترضوا بشدة على هذا الاقتراح، وحجتهم في ذلك أن وقف التنسيق الأمني معناه «زرع الفوضى في مناطق السلطة»، ودون شرح مطول أبدى قادة الأجهزة الأمنية تخوفهم من اتساع ظاهرة المقاومة المسلحة، التي بدأت تنتشر في جنين ونابلس وغيرها، فضلاً عن أن ذلك سيفتح الباب أمام حركة حماس «للعبث بالوضع الأمني في الضفة»، ولا يحتاج الأمر أن يكون عبقرياً، ليقرأ في تقديرات قادة الأجهزة، التزاماً صارماً بـ«اتفاق أوسلو»، وبالتنسيق الأمني، خاصة لما يوفره للبعض من امتيازات، قد تتبخر مع وقف التعاون مع الاحتلال.
في هذا السياق تقول التقارير لتأكيد صحة هذا الإستنتاج: إن قادة الأجهزة الأمنية لم يوقفوا التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال في تموز (يوليو) 2017، إبان أزمة بوابات الأقصى، بل حافظوا على المسار الخلفي للتنسيق مع الغرفة الأمنية في سفارة واشنطن في تل أبيب (آنذاك)، والتي يقودها جنرال أميركي، أما في بحث استكمال تنسيب دولة فلسطين إلى الوكالات الدولية ذات الاختصاص، والتي أكد «خطاب نيويورك» أنها ستتم في اليوم التالي للخطاب، فقد انقسم الحضور إلى فريقين: الأول يتمسك بقرارات المجلسين الوطني والمركزي، ويدعو إلى كسر الفيتو الأميركي والانتساب إلى هذه الوكالات، خاصة وكالة الملكية الفكرية التي يستحيل على الولايات المتحدة أن تغادرها، وغيرها من المنظمات التي كانت واشنطن أبلغت السلطة اعتراضها على انتساب دولة فلسطين إليها، منعاً لتعزيز موقع دولة فلسطين في مؤسسات المجتمع الدولي. فريق آخر دعا إلى تجنب كل ما من شأنه إثارة الولايات المتحدة، وتعميق هوة الخلافات مع واشنطن، وكالعادة، وأمام هيمنة اتجاه التمسك بأوسلو، وبـ«الرعاية» الأميركية للقضية أُحيل الموضوع برمته إلى رئيس السلطة، الذي خوّله المجتمعون، اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب وتبخر الموضوع ...
إذن؛ لا خروج من أوسلو، ولا انفكاك من التزاماته واستحقاقاته، بما في ذلك التنسيق الأمني، ولا تطبيق لقرارات المجلسين الوطني والمركزي، ولا خطوة عملية لتنسيب دولة فلسطين إلى الوكالات الدولية ذات الاختصاص.
لكن، ماذا عن طلب فلسطين إلى الأمين العام للأمم المتحدة لاتخاذ الإجراءات، تحضيراً لعقد المؤتمر الدولي تحت قبة الأمم المتحدة، وبموجب قراراتها؟ وماذا عن نعي الرباعية الدولية في أكثر من اجتماع للجنة التنفيذية منذ اندلاع أزمة التدخل الأميركي في أوكرانيا ؟
بتقديرنا أن دعوة الأمين العام للتحضير لمؤتمر دولي، ما كانت سوى مجرد «تعليق» ورد خارج النص الرسمي للخطاب، ولا ينتمي إلى السياسة الرسمية لقيادة سلطة الحكم الإداري الذاتي.
ولعل لقاء الرئيس عباس الرئيس الروسي بوتين، في قمة أذربيجان الأخيرة، وتأكيد الرئيس عباس تمسكه بـ«الرباعية الدولية»، إثبات شديد الوضوح على صحة تقديرنا، وعلى أن القيادة الرسمية لم تغير مسارها السياسي، وأنها ما زالت تراهن على دور الولايات المتحدة، فـ«الرباعية الدولية»، كلمة السر للرعاية الأميركية لما يسمى «حل الدولتين» (والذي لن يأتي في المدى المنظور – كما قال الرئيس بايدن في لقاء بيت لحم مع الرئيس عباس).
و«الرباعية الدولية» هي كلمة السر للتودد الرسمي للولايات المتحدة، ولعل تكتم الإعلام الفلسطيني الرسمي وتجاهله الشكوى المريرة للرئيس عباس أمام الرئيس بوتين، من السياسة الأميركية، وعدم احترامها للسلطة الفلسطينية وصولاً إلى فقدان الثقة بواشنطن، دليل قاطع أن ما يقال خلف الجدران (في واشنطن) غير ما يقال خلف الجدران (في أذربيجان)، وأن واشنطن هي المكان الذي تقال فيه المواقف الرسمية الملزمة، وأن كل حديث خارج هذا السياق بما في ذلك «خطاب نيويورك»، ما كان إلا ،«صرخة» ... صرخة المخدوعين من «اتفاق أوسلو»، صرخة المخدوعين من «الوعود الأميركية»، وهي صرخات لا صدى لها، لا في واشنطن ولا في نيويورك.
وما حصيلة شهر من الصراخ، من نيويورك إلى واشنطن إلى أذربيجان، سوى «كتلة أصفار» تضاف إلى أصفار الأعوام الماضية.