"من المعاناة يُولد الإبداع " تلك هي العبارة التي تصف البقعة التي تُخرج المئات من الأبطال والشهداء والمعلمين والمفكرين، رغم تردي الأوضاع الاقتصادية جراء الحصار المفروض على قطاع غزّة منذ نحو 16 عاماً.
ضاقت الدنيا بأجيال من الشباب في غزّة الذي لجأ بعضه للهجرة بلا عودة، والبعض الآخر قرر التمرد على الوضع وخلق فرص عمل بأفكارٍ جديدة، فكم شاهدنا مشاريع صغيرة لمجموعة من الشباب لاقت استحسان المواطنين.
كغيره رفض الشاب الثلاثيني، محمد سعيد، أنَّ يترك مجالاً لظروفه لكي تنال منه، فعمل تارة في البناء وأخرى في صيانة الهواتف الخلوية، لكِنه تعلم مهنة جديدة أحبَّها وأطلق لخياله العنان ليبدع فيها، فتعلم قص الجرانيت وتركيب حجارته؛ ليُخرج مطبخاً جميلاً ترتاح فيه سيدة البيت وفق أحدث الموديلات العالمية، حيث أحب المهنة وأجادها وأصبح الجميع يُشيد بعمله ومهارته في إنشاء المطابخ والأدراج بأشكال مختلفة وخلابة.
بدأ "محمد" مشوار العمل في تركيب مطابخ الجرانيت قبل ست سنوات تقريباً، مع صديق دراسته الجامعية في البداية، حتى أتقنها وانطلق بعدها لوحده إلى عالم تركيب المطابخ والأدراج والشبابيك، وتواصل مع زبائنه عبر صفحته في موقع "فيسبوك" الذين أبهرهم جمال وذوق ودقة نحته للجرانيت، فباشروا بالاتصال فيه من أقصى جنوب القطاع حتى شماله.
مراسلة "خبر" الفلسطينية، التقت محمد وقد كسا وجهه وجسده طبقة كبيرة من الغبار غطَّت ملامحه باللون الأبيض، حيث أكّد في حديثه على رضا الزبائن عن أعماله بعد الانتهاء من العمل، بسماع كلمات الشكر والثناء، وأنّهم لم يتوقعوا الحصول على هذه النتائج.
وعن السبب الذي جعله يتَّجه إلى هذه المهنة دون غيرها، قال محمد: "لم أختر هذه المهنة بإرادتي في البداية، فالظروف الاقتصادية وقلة فرص العمل جعلتني أمارس عدَّة مهن حتى وصلت إلى مهنة تركيب الجرانيت والرخام في المطابخ والمكاتب والغرف والصالات والشبابيك".
وعن مدى رضاه في العمل بهذه المهنة، عبّر عن اعتززاه بالمهنة بعد تعبٍ وكدٍ لسنوات، حتى بات لديه عدد كبير من الزبائين الذين يُحبون أعماله ويتحدثون عنها في أماكن عدة، مُضيفاً: "رغم التعب والإرهاق الذي أشعر به لأيام طويلة بعد الانتهاء من العمل، وصعوبة التنفس نظراً لكمية الأتربة الناتجة عن قص الرخام والجرانيت التي تتطاير في وجهي، إلا أنّني سعيد جداً بعملي".
ولفت إلى أنَّ هذه المهنّة تواجه أحياناً بعض العراقيل، منها عدم توفر المادة اللاصقة "الديبق" في كثير من الأحيان بسبب إغلاق المعابر، أو استغلال التجار لذلك فيقوموا بتخزينها ومن ثم يبيعونها بأسعار مرتفعة جداً، مُبيّناً أنَّ هذا الأمر يدفعهم لشراء المادة بسعرٍ مضاعف لتسليم الزبائين أعمالهم في الموعد المُحدد.
وتُعد خامات الرخام والجرانيت الأكثر استخداماً لمطابخ المنازل نظراً لأناقتها، فهي تعمل على خلق إشراقة في المطبخ بنقشاتها ولمعتها وتصاميمها المميزة؛ لتعطي لمسة مميزة وطابع خاص.
"إياد خلف" شاب آخر أبدى سعادة كبيرة بإقبال الزبائن عليه وطلبهم تصاميم مطابخ أو شبابيك أو أدراج، وقال:"إنّه على الرغم من الوضع الاقتصادي السيء الذي يعيشه قطاع غزّة، إلا أنَّ الطلب على تركيب الرخام كبير جدًا، والذي تتنوع أسعاره من حيث النوع والشكل، ولذلك يختلف سعر المتر الواحد من نوع إلى آخر والتي من بينها "الروزابتا، المالتيكلر، براديسو، جالكسي" حيث يزداد الطلب الشعبي على الروزابتا أكثر من غيرها لأنّها في متناول الجميع".
وعلى الرغم من تكلفتها فهي استثمار يستحق كلَّ الأموال المبذولة فيه، بالإضافة لذلك فإنَّها صالحة للاستخدام في كلِّ الغرف، والمطابخ والحمامات، وأيضاً كخامات لأرضيات الغرف أو الصالات.
ولاستطلاع آراء المواطنين عن أهمال هؤلاء الشباب، التقت مُعدة التقرير بربة المنزل تُدعى "أم صالح"، وهي كانت قد تواصلت مع أياد ليُغير لها ملامح مطبخها ويُضيف مزيد من الخزانات والأرفف لها فيه، فقالت: "أنا سعيدة جدًا بأنَّني تعاملت معه، هو فعلًا أبدع في تغيير ملامح مطبخي بدقة عالية جدًا ومريحة للنظر، وتُواصل مازحةً في حديثها "على الأقل أصبح لدي متسع في المطبخ لكي أضع شاشة التلفاز وأشاهد مسلسلي المفضل أثناء تأدية عملي في المطبخ، ودون أّن يفوتني شيء وبعيداً عن تذمر زوجي مني".
ومن الجوانب السيئة في هذا العمل، أثاره الصحية التي تؤثر بشكل كبير على صحة ممتهنو هذه المهنة الصعبة والخطرة، ففي زاوية منزله يجلس الشاب ربيع مسلم، والذي لم يتعدى عمره التاسعة والعشرون، إلا أنّه لا يستطيع الكلام كثيراً، فبين كل كلمة وأخرى يُطلق كمية هائلة من السعال تكاد تخترق جدران منزله التي يتكئ عليها، حيقث قال: "منذ أربع سنوات وأنا أعمل في قص وتركيب مطابخ الجرانيت والرخام، وكان عملي هو قص الرخام وتنظيفه، ويستمر العمل لساعات طويلة تمتد أحياناً لتسع ساعات، ونحن تحت رحمة "الديسك" أي -ماكينة قص الرخام- الذي كثيراً ما وقع على أيدي وأرجل العمال وأُدخلوا أحياناً من ورائه إلى المستشفى عدا عن خسارة البعض لأطرافه".
وتابع حديثه المليء بالوجع والمرض: "الساعات الطويلة التي كنا نقضيها في قص الرخام كان التراب ورذاذ الرخام يتطاير على أجسادنا فيغطيها بالكامل، بالإضافة إلى أنّنا نستنشقه مثل الهواء وهذا ما جعلني طريح الفراش، بعد أنّ أُصبت بالتهاب حاد في الشعب الهوائية، مع تشديد الطبيب على ضرورة عدم تعرضي لأيّ غبار أو تلوث للحفاظ على صحتي".
ومضى ربيع مُتسائلاً: "إذا ما استمرت حالتي بهذا الشكل، فمن الذي سيُعيل أسرتي وأشقائي الصغار ويُعينهم على أعباء الحياة؟"، مُتابعاً: "رغم المبلغ الزهيد الذي لا يتعدى الثلاثون شيكلاً وكنت أتقاضاه في اليوم الواحد، إلا أنّني كنت أشعر بالسعادة والرضا بعودتي إلى المنزل لوالدتي ومعي تكلفة الطعام ومصروف أشقائي الصغار".
يُذكر أنَّ الرخام هو نوع من أنواع الصخور، ويُمكن بلورته والحصول على ألوان مختلفة منه حسب مكان استخراجه، أما الجرانيت فهو عبارة عن صخور صلبة مكوَّنة من صخور مكبوسة داخلها مثل الكوارتز والميكا، وكلاهما يُستخدم في البناء والديكور وعلى الرغم من تكلفته العالية يُعتبر من أقوى الخامات في العالم.
شباب غزّة يُبدعون في تصميم وتركيب مطابخ الجرانيت والرخام pic.twitter.com/BM6Yx3bXld
— وكالة خبر الفلسطينية (@khbrpressps) November 2, 2022