تحديات أمام القيادة الفلسطينية

تنزيل (2).jpg
حجم الخط

بقلم بكر ابو بكر

 الشتاء قادم والعالم منشغل بتدفئة القنوات السياسية بين الدول المختلفة لغرض مواجهة العواصف الباردة، فالعملية العسكرية القائمة على أرض أوكرانيا بين العالم الغربي والاتحاد الروسي تشغل تحركات ومصالح الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الاوربي.
ولا تكاد التحركات الإقليمية والعربية تبتعد عن مركز الثقل السياسي المتمثل باقتراب بزوغ فجر سياسي عالمي جديد، تفترُ فيها همّة القوة الوحيدة في العالم لتفسح المجال نحو عالم متعدد الأقطاب وهو ما يعاد رسمه بوضوح.
المنطقة الوحيدة في العالم التي تُعاني من التشتت والتفتت والحرب هي المنطقة العربية التي تتآمر عليها علنًا القوى الإقليمية وعلى رأسها "إسرائيل"، ودول الغلاف العربي ولا تكاد تخرج عن الهدف الأكبر للقوة العالمية الوحيدة الآفلة بتفتيت المنطقة لتظل "إسرائيل" هي القوة الوحيدة المهيمنة في المنطقة.
تتقاتل إيران كما تفعل تركيا على جسد بلاد العرب، مهما ساقتا من مبررات، والمنطقة المتاحة لمبضع الجراحين السياسيين هي سوريا والعراق واليمن وليبيا... بشكل أساسي في تداخل مع "إسرائيل" حيث المحاصصة والمصالح، وحيث المساحات المتفق عليها سرًا أو علانية وبين القوى العالمية الصاعدة أي الصين وروسيا، وربما غيرها وتلك الآفلة كقوة وحيدة.
في خضم هذه الاحتراب السياسي-الاقتصادي-المصلحي، وحيث كل طرف ما ومنه الاقليمي اوالعالمي يكتّل أوراقه لمواجهة الصقيع العالمي القادم، ويزيد من مكاسبه ومكامن قوته في مواجهة الآخر وليحجز له مقعدًا في النظام العالمي الجديد، باستثناء أمة العرب! التي طاب لها تفتتّها وطاب لها انسحاقها تحت أقدام الكبار؟ فلم تعد ترى وجودها الشمولي الوحدوي المرتبط بفلسطين مطلقًا فيما هو الأمن القومي العربي! وتظن وهي خاطئة أن تحركاتها المنفردة لاتخاذ مقعد بالمشهد يتجاوز قضية فلسطين! وسرعان ما سيكتشفون فشل تحليلهم، وسعيهم فمجال قوتهم الأكبر حين يحتضنون فلسطين، وفشلهم حين يصبحون عصيّ متكسرة.
قضية فلسطين لم تكن منذ النكبة، والمذابح واللجوء الا قضية عالمية صنعها الاستعمار الغربي وعلى رأسه أمريكا وبريطانيا، ومازال متمسكا بها ولن يملّ، وما يساعده بذلك أن تمسكه ب"إسرائيل" كقوة مهيمنة غربية قد أصبح قدرًا لدى عدد من الساسة العرب المنتكسين الذين يضحون بالآجل مقابل العاجل، ويسقطون بالطريق كل معاني الكرامة والحرية، والأخلاق العربية وكل معاني التعاضد الديني والقومي، فتسقط فلسطين وتركب على أكتافهم "إسرائيل" وتسدلُ (تدندل بالعامية) رجليها!
القضية الفلسطينية اليوم في ظل الحرب العالمية القائمة في مساحة أوكرانيا حتى الآن، وفي ظل التشريح العالمي والإقليمي المقصود لجسد العالم العربي (البعض المأسور للغرب يستسخف مصطلح الأمة والعالم العربي ويرى الشرق الأوسط ليسقط فكرة وحدوية الامة، وفكرة فلسطين في قلبها) تدخل مرحلة صقيع مفصلية (ومتى لم نكن في مرحلة مفصلية!؟) إذا نظرنا لها من النواحي الثلاثة فهي أصبحت في ذيل اهتمامات دول العالم الحر وغير الحر، الذي يعاني البرد مقابل التحرك في لعبة الكراسي ليكون لأي منها مقعدًا في النظام العالمي القادم.
وقضية العرب الأولى (ليست نكتة فلقد كانت كذلك!) تعاني حالة رسمية من الصقيع وليس البرد فقط، وتعاني الإنكار لأهميتها، أو حتى لوجودها أصلًا . وقد ترى الوضع العربي من القضية بالتأفف والتفلت وإدارة الظهر وهي حالة غير مسبوقة سواء من قوى الالتحاق بالإسرائيلي والاعتراف بتسيّده عليهم وفي المنطقة (المسماة جهات التطبيع العلني والسري) وهنا تفقد القضية الظهير العربي الذي لولاهُ لن تستطيع القضية أن ترفع رأسها عاليًا وتشن هجومها السياسي بثقلٍ يحسب له سياسيا جغرافيا اقتصاديا ومصلحيًا كل الحساب.
القضية الفلسطينية (الصراع العربي-الصهيوني أو لاحقًا الفلسطيني-الإسرائيلي!) نشأت دولية، ومازالت، ويتحكم بها العوامل السياسية الثلاثة أي الدولية، والعربية (وحاليًا الاقليمية) وبالطبع الداخلية الوطنية. وإن كان لنا من نظرة للحالة الوطنية ممثلة بالقيادة السياسية فهي تعاني العزلة العربية كما تعاني الإهمال وإدارة الظهر للأسباب مما سبق ذكره ولأسبابنا نحن الداخلية.
دعنا نعرض سريعًا الحالة الداخلية الفلسطينية وكيف يراها العرب ظهيرنا الذي لا بديل عنه شاء من شاء وأبى من أبى، إن نحينا العوامل الداخلية لكل دولة وهي العوامل ذات الطبيعة الاقتصادية المصلحية والأنوية السلطوية فإننا في حالة عجز مقيم في العلاقة بين الفصائل السياسية، بل وفي ذاتها أي داخل كل فصيل، وفي حالة عجز من استعادة النظام السياسي الديمقراطي، ونعاني عجزًا في تطوير أو إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية. فلم تكفِنا عديد الاتفاقيات السياسية (المصالحة) حتى بتنا ملاحقين بالسخرية والتهكم نظرًا لافتقادنا إرادة التطبيق، لتجد فينا من يفترض أن المصالحة القادمة قد تكون في دوشانبي عاصمة طاجكستان أو كانبرا عاصمة استراليا! فكيف بالله عليك تجد نظرة غالب ساسة العرب اللاهين أصلًا بشؤونهم، ولا يكادون ينظرون لفلسطين بطرف عين! حتى قال أحد القادة الفلسطينيين الكبار مؤخرًا إنهم يتجنبوننا (أي ساسة العرب) في ردهات المؤتمرات، ولا يلقون علينا بالسلام!ناهيك عن إغلاق الدعم المالي كليًا من ما يقارب 3 سنوات!
إن العامل الوطني ذو أهمية قصوى خاصة في ظل الانشغال العالمي والتكالب الإقليمي والافتراق العربي بمعنى أن القيادة الفلسطينية التي تحمل فوق أكتافها أعدل قضية وأحق قضية، قضية آخر احتلال في العالم لأرض فلسطين العربية، وقضية إستقلال دولة فلسطين القائمة بالحق الطبيعي والتاريخي والقانوني، لم تعد أكتافها بذات الصلابة المطلوبة، فهي تهتزّ تحت الثقل الكبير وعوامل الشيخوخة، ولم تعد تحركاتها بسرعة الأحداث الداهمة، ولم تعد نظرتها الجمعية ذات تألق لسبب تعملق الحزبية البغيضة، والعشائرية المدعومة إسرائيليا، وعقلية الفسطاطين (المعسكرين والمنهجين والسياستين بما تحمله من قيم نبذ الآخر والإقصاء والتفرد...) ولسبب التفتت على جادة المموّل الذي لا تهمه إلا مصالحه هو فقط. وما بين كل ذلك من تعملق الفكر الوظيفي السلطوي الارتزاقي داخل الفصائل مقابل تنحي حالة الثورية والنضالية إلا من ثلة من الشباب الفلسطيني الناهض في حركة التحرير الوطني الفلسطيني- "فتح" و"الجهاد" أساسًا الذي يرفض كل حالة السكون والركود والاندثار، فيعلن يوميًا أن فلسطين حرة.
ما البدائل أمام القيادة الفلسطينية بمواجهة كل ذلك؟ هل نحتاج لمصالحة أو إعلان أولاتفاق جديد؟ بالطبع لا.فالاتفاقيات المختلفة من مكة حتى الجزائر فيها من الأفكار القابلة للتطبيق والآليات الكثير، وفيها ما إن انبثقت الإرادة والعزيمة السياسية ما يجد نفسه يسير على الأرض، بل وباحتضان كل الجماهيرالعريضة.
هل نحتاج لاستعادة الظهيرالعربي؟ وتفكيك قوالب الثلج التي تفصلنا؟ بالطبع نعم، رغم الوجع الكبيربل والكبير جدًا الذي نعانيه. لكن من يملك قضية جامعة يخوض في المستنقعات وفي الوحل (رحم الله ياسر عرفات صاحب مصطلح السير في حقل الأشواك) ويتخلي عن كثير من الذاتية القامعة مقابل المصلحة العامة.
هل نحتاج لاحتضان المقاومة الشعبية السلمية؟ نعم، وبدهاء أكبر وتوسع أكثف جغرافيًا وزمنيًا وعدديًا، وعبر برنامج جامع وقيادة مؤمنة (غير انتهازية، واحدة للشمال والجنوب) بما تفعل، وليس شكلًا أواستعراضًا فقط أوذرًا للرماد بالعيون لاستمالة الجماهير حزبيًا، ما يجنّب الشعب وقواه الفتية النظرة المراهِقة في فهم فارق القوة العسكري والعددي في مواجهة الجيش الصهيوني وعصابات المستعمرين (المستوطنين)، وما يؤدي لضحايا وشهداء وأسرى، ومزيد من المذابح والقتل والسلب دون نتيجة بمقدار حجم الهدف الكبير، وطبيعة القوة والدعم والطاقات والوسائل التي نملكها.
هل نحتاج لحراكات دولية متواصلة لتحقيق مزيد من الالتفاف العالمي حول الدولة الفلسطينية وحول الرواية الفلسطينية المحقة؟ وحول المطالب الفلسطينية؟ نعم، وبمثل ما انطلق يتحدث به الرئيس أبومازن سواء بالأمم المتحدة، لو قيض له أن يتحول لخطة عمل، أو بلقائه مع الرئيس الروسي مؤخرًا الذي أعلن فيه رفض القيادة الأمريكية الوحيدة المتحكمة بالعالم، في فهم لمتغيرات القوى ومتغيرات النظام العالمي الجديد.
هل نحتاج لانتخابات جديدة داخل السلطة الوطنية الفلسطينية؟ نعم، لما لذلك من أهمية أمام العالم، ولما له أيضًا من أهمية وطنية قصوى تجمع الأشتات بالداخل والخارج، وتعيد للشعب كثير من الأمل بالتغييروالانطلاق نحو المستقبل، وإلا كيف ينظر الفلسطيني العادي لنقيضه الأول والأساس أي الصهيوني وهو يخوض الانتخابات الخامسة في أقل من 4 اعوام! على ما نفهمه من فروقات بالطبع، فلا مقارنة دقيقة بين ديمقراطية مزيفة مغلفة بالتمييز العنصري والأبارتهايد وديمقراطيات العالم الحر.
هل نحتاج لمنظمة تحرير فلسطينية ثورية برداء جمعي جبهوي شامل وجديد وبقوانين وأنظمة ولجان وتشكيلات تأخذ بالمتغيرات العالمية بالداخل والخارج، بالطبع نحن محتاجون لذلك فلم تعد التشكيلات القائمة المحدودة داخلها تلبي احتياجات كل فئات الشعب وأطره عدا عن فصائله التي لا تمثله كله.
إن خروج القضية الفلسطينية من سلسلة الأزمات المتكالبة ما بين الداخلية المتفاعلة مع المحيط، ومع العالم تحتاج لمعول يستطيع أن يزيح الثلوج المتراكمة، وتحتاج لأكتاف شابة العقل والعطاء وقوية الأكتاف قادرة على الصمود والمثابرة والاستمرار حتى النصر.