يربط كثير من المحللين والمراقبين الفلسطينيين وحتى القادة السياسيين، بين تصاعد الهجوم الإسرائيلي الشامل على الشعب الفلسطيني، وبين الانتخابات الإسرائيلية المقررة مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. ولعل كل هؤلاء محقّون في رأيهم، لو كان هذا التصعيد هو دأب الحكومة الحالية دون غيرها، وليس محل إجماع وتوافق كل مركبات المؤسسة الصهيونية الحاكمة، من أحزاب الائتلاف الحالي، إلى أحزاب المعارضة، وكذلك الجيش والمؤسسات الأمنية والسلطتين القضائية والتشريعية، والمرجعيات الدينية، وجمعيات المستوطنين وصولا لمؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام والمثقفين وصناع الرأي العام.
تظل الانتخابات إذن عاملا ثانويا وظرفيا للتصعيد، وربما هذا العامل هو المسؤول عن بعض التكتيكات والأساليب المستخدمة، وعن توقيت هذه الهجمة أو تلك، فقد اعتاد حكام إسرائيل على توظيف الدم الفلسطيني والعربي ( والإسرائيلي كذلك) في خدمة المآرب الحزبية والشخصية. بعض قادة إسرائيل افتعل حروبا وضربات عسكرية نوعية، أو عمليات اغتيال وهجمات استعراضية مميزة لهذه الغاية. فالمهم في نظرهم ليس مصالح الدولة القريبة والبعيدة، بل ما تجلبه هذه العمليات في الأمد القصير من زيادة لشعبية متخذ القرار وعدد مقاعد الكنيست الإضافية التي يمكن أن تعزز فرص الحزب الحاكم في البقاء في السلطة.
مراجعة لسياسات وممارسات الحكومات الإسرائيلية السابقة، وبخاصة خلال العقدين الأخيرين، تظهر أن جميع الحكومات المتعاقبة على اختلاف الأحزاب (العمل برئاسة بارك، ثم الليكود برئاسة شارون، ثم كاديما برئاسة شارون وأولمرت وصولا لحكومة التغيير برئاسة بينيت/يمينا، ولا بيد/ يوجد مستقبل) اعتمدت خيار القوة العسكرية بديلا عن السياسة والمفاوضات لفرض الحل الذي تريد إسرائيل إملاءه على الفلسطينيين، وتقترن سياسات البطش والقمع الدموي بالجنوح المتزايد نحو اليمين والتطرف، والجهود المستمرة لتقويض فرص قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وتراجع القوى الصهيونية كافة عن حل الدولتين مع أن بعض القوى التي تصنف نفسها وسطا او يسارا تردد هذا الشعار لفظيا لإظهار اعتدالها، ولكنها تلقي بالمسؤولية عن فشل الحل على الفلسطينيين، ولا تبدي اي استعداد عملي لبذل أي خطوة لإنجاز هذا الحل، بل تعمل على تهميشه حتى خلال الحملة الانتخابية، وتتساوق عمليا مع سياسات اليمين المتطرف، بل تنخرط فيها بحماسة وتتبناها وتدافع عنها.
ثمة إذن تحولات تدفع المؤسسة الصهيونية الحاكمة إلى اعتماد خيار الحديد والنار في التعامل مع الفلسطينيين الذين بات يُنظر لهم كسكان طارئين على هذه البلاد، وليسوا شعبا جارا أو شريكا في أية عملية سلام مفترضة. أبرز هذه التحولات هو اعتماد قانون أساس القومية منذ تموز 2018، ومع أن القرار لم يحظ عند إقراره إلا بأغلبية ضئيلة، فقد بات بعد إقراره يشكل القاعدة القانونية والسياسية والنظرية لكل السياسات والممارسات الإسرائيلية التي تنطلق مما أرساه القانون المذكور، ولنظام الفصل والتمييز العنصري (الأبارتهايد) المكرس على الأرض. جوهر القانون هو أن حق تقرير المصير في هذه البلاد حق حصري ل"الشعب اليهودي"، وأن الاستيطان هو أولوية قصوى للحكومة وكل المؤسسات.
ترافق ذلك مع ظروف وجدت فيها إسرائيل فرصة ذهبية سانحة لفرض الحل الذي تريد بالقوة وبشكل أحادي، دون انتظار لأية مفاوضات، مع المراهنة على أن اية تغييرات مادية على أرض الواقع سيكون من الصعب التراجع عنها في المستقبل، ومن العوامل التي شجعت إسرائيل على هذا المنحى: الانقسام الفلسطيني وما تبعه من أزمات سياسية واجتماعية وأمنية ومعيشية فلسطينية ساهمت في إضعاف الفلسطينيين وتبديد جهودهم واستنزاف جزء كبير منها على التجاذبات والصراعات الداخلية، انهيار النظام العربي وتفككه، وانشغال الدول العربية بأزماتها وصراعاتها وانقسامها إلى محاور متصارعة فضّل واحد منها التطبيع مع إسرائيل والتحالف معها، والأزمات الدولية الكبرى بدءا من جائحة كورونا وصولا إلى أزمة أوكرانيا والتوترات بين الولايات المتحدة والصين، فضلا عن التوترات الإقليمية والدوليةن وصعود اليمين العنصري، وازمات الطاقة والغذاء المتجددة.
جاء طرح صفقة القرن أو صفقة ترامب نتنياهو (وكلاهما مرشح بقوة للعودة)، بمضمونها التصفوي للحقوق الوطنية الفلسطينية، ترجمة لهذه التحولات، ومع أن هذه الصفقة سُحبت من التداول رسميا، وجُمّد العمل بها حتى في عهد نتنياهو، إلا أن كل ما تفعله الحكومة الحالية هو ترجمة حرفية لهذه الصفقة بدءا من تهويد القدس وأجزاء من الخليل والأغوار، وتكثيف الاستيطان، وسباق السيطرة على أكبر مساحات ممكنة من الأراضي المصنفة (ج)، والرفض القاطع لفكرة قيام دولة فلسطينية، ثم الترويج لحلول اقتصادية واحد منها للضفة والثاني لغزة التي يراد فصلها نهائيا عن الضفة.
لكل ذلك، وفوقه الدعم الأميركي المطلق، تتصرف إسرائيل بعقلية أنها كانت وما زالت وسوف تبقى هي الأقوى، وأنها انتصرت على العرب والفلسطينيين في جميع الحروب السابقة، وبالتالي يحق لها أن تترجم انتصاراتها إلى مكاسب سياسية على الأرض، تتجاوز قبولها والاعتراف بها، إلى التسليم بأطماعها، والموافقة على ما تريد: إسرائيل الكبرى واختزال حقوق الفلسطينيين الوطنية إلى محض حقوق معيشية، أي بلغة أخرى أن يشكروا إسرائيل ويسبّحوا بحمدها لأنها لم تقتلهم ولم تهجّرهم جميعا حتى الآن، بل سمحت لقسم كبير منهم بأن يبقوا على هذه الأرض، مرشحين لأن يكونوا عبيدا في مشاريعها ووكلاء لها.
حتى تحقق إسرائيل مآربها عليها أن تنجز هدفين: أولهما اختزال دور السلطة وتحويل هذا الدور من كون السلطة ترتيبا مؤقتا، ونواة للدولة المستقلة وكاملة السيادة، إلى تأبيد الوضع الراهن وحصر مهمته في القيام بالوظائف التي تخدم إسرائيل وهي إعفاؤها من عبء التعامل مع ملايين الفلسطينيين، والدور الأمني، وإشاعة انطباعات بأن ثمة عملية سياسية جارية على الرغم من العراقيل التي تعترضها.
أما الهدف الثاني فهو إخضاع الفلسطينيين وكسر إرادتهم ودفعهم للقبول بأهون الشرور، مشكلة قادة إسرائيل المزمنة هي أن حربهم التي يخوضونها منذ سنوات طويلة ليست ضد دولة أو جيش أو تنظيم، بل هي ضد شعب مسكون بإرادة الحرية، وكل جيل يأتي يكون اكثر تصميما من سابقه على خيار الحرية و... المقاومة.