عليك أنّ تسير في شوارع غزّة وحاراتها القديمة، لتستمع لهمومٍ من خلف الجدران بعد أنّ تقطعت السُبل في عائلاتٍ مُهددة في أيّ لحظة بالطرد من منازلها، لعدم تسديدهم شهور متأخرة من قيمة الايجار، والتي حال دون دفعها عدم وجود عملٍ لهم أو مصدرٍ ثابت للدخل، حتى أنَّ بعضهم يتقاضون مخصصات الشؤون الاجتماعية التي تأخر دفعها لأكثر من سنة ونصف، قبل أنّ يتم استئناف صرفها قبل شهر.
أزمة المستأجرين تتفاقم شهراً تلو الآخر، والمؤجرون نفذ صبرهم مع استمرار الأزمة المستمرة وقلة الدخل الفردي، في ظل ارتفاع نسبة البطالة، إلى عدم قدرة الأجيال الشابة الجديدة على دفع أجرة شققهم.
غزّة المدينة الحزينة لها خصوصية بفعل الظروف الاقتصادية الصعبة، حيث إنَّ بعض المواطنين يعتبرون بداية الشهر الجديد بمثابة كارثة تحل عليهم بل وأكثر من ذلك، فقد أصبح هاجس الترحال يُلاحقهم من شقةٍ إلى أخرى، وفي حال بدأ الشهر الجديد ولم يتمكنوا من تسديد أجرة الشهر المنصرم، لا يحتمل بعض ملاك العقارات سماع كلمة اعتذار واحدة.
أضف إلى ذلك أزمة تعطل الاعمار للعديد من الأسر المتضررة سواء في عدواني 2014 أو 2021، وكذلك متضررو العدوان الأخير في مايو 2022م.
فقد الكثير من المواطنين منازلهم في حرب 2014 ولا زال ملف إعادة الإعمار عالقاً في الدوائر الرسمية، ما دفعهم لاستئجار منازل يتعسر عليهم تسديد إيجارها الشهري، وينتهي بهم الحال دون معرفة مصيرهم المُعلق منذ نحو ثماني سنوات
مراسلة وكالة "خبر" التقت بمجموعة من المواطنين، من أجل تسليط الضوء على معاناتهم التي تختلف في الشكل لكنها تتفق في المضمون، حيث كان "أبو محمد" وهو أب لسبعة أطفال جميعهم في المدارس ويحتاجون لمتطلبات لا حصر لها، يعيش في منزله الكبير في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزّة وسط أجواءٍ أسرية سعيدة، حتى تبدل به الحال عام 2021 بعد أنّ قصفت طائرات الاحتلال منزل جاره وطال القصف منزله بشكلٍ كلي، لينتهي به الحال مُستأجراً لمنزل قريب من مكان سكنه القديم.
وقال: "تتراوح قيمة ايجار المنازل ما بين خمسمائة إلى سبعمائة شيكل، وفي هذا الوقت الصعب لا يملك أحداً هذا المبلغ، خاصةً في ظل المتطلبات الكبيرة التي تحتاجها الحياة من مصاريف المدارس والطعام والشراب، عدا عن فاتورة الكهرباء والماء والخدمات، وهذا الأمر دفع بمالك المنزل ليقول لي مراراً وتكراراً (أنا مش فاتحها سبيل، معك ادفع واسكن، ما معك الله اطلع من بيتي)، وفق حديثه".
وأشار أبو محمد، إلى أنّه لمي حصل على مساعدة لدفع الايجار من أيّ جهة كانت، باستثناء المبلغ الذي صُرف له بعد العدوان، والذي لم يكفي لشهرين، مُعبراً عن أمله أنّ يتم تعويضه بشقة سكنية من الشقق التي تبنيها الدول المانحة لإنهاء معاناته.
أزواج على عتبة الطلاق والسبب؟
خالدة عيسى، وهي أم لخمسة أطفال وربة منزل، تعيش مع زوجها "الذي يعمل بالبناء وبأجر يومي لا يتراوح العشرون شيكلاً"، في خلافات دائمة بسبب الوضع الاقتصادي وقلة العمل، حيث إنَّ زوجها يستطيع بالكاد توفير لقمة العيش لعائلته ولا يستطيع تسديد قيمة ايجار منزلهم، لكِنها لا ترى أنّ لها ذنب هي وأطفالها في هذا الوضع المتأزم، وتقول: "منذ ثلاثة سنوات وأنا أعيش بالايجار وقد تنقلت بين منزلين وليس بإرادتنا طبعاً، فصاحب المنزل يُطالبنا بدفع قيمة الايجار ولا نستطيع بسبب الوضع الاقتصادي وفي حال تمكنا من سداد قيمة ايجار شهر، سنتعثر في الشهر الذي يليه، فأصحاب المنازل يُريدون الانتظام في الدفع شهرياً، وفي إحدى المرات استغل صاحب المنزل خروجنا من البيت ووضع قفلاً فوق القفل الخارجي لباب الشقة، وبعد عودتنا للمنزل طلب منا إخلائه أو دفع الايجار، ما اضطر زوجي لكتابة سند دين على نفسه لكي نتمكن من تسلم عفش المنزل"، مُطالبةً وزارة الإسكان بالنظر إلى معاناتها في ظل أنّها معرضة للطرد من المنزل الذي تعيش به حالياً في أيّ لحظة.
تعيش في حاصل هي وأطفالها الصغار
"فداء شلايل" تظن بالنظر إليها أنّها تجاوزت الخمسين عاماً لكنِها ما زالت في الثلاثينات من عمرها، إلا أنَّ قلة حيلتها بعد وفاة زوجها وتنصل أقاربه من التزاماتهم تجاه أطفالها السبعة جعلها تعمل هي وأطفالها الأربعة في بيع الحلوى وتنظيف البيوت، لكي تتمكن من دفع ثمن ايجار الحاصل الذي تقطن فيه، وبكل الأحوال هي أيضاً مُهددة بالطرد منه لتراكم الايجار عليها لنحو ثلاثة شهور، وقالت: "بعد وفاة زوجي تبدل الحال فقد كنت أعيش في منزل العائلة الذي لم يعد يسعني أنا وأولادي، فدلني أهل الخير على حاصل للايجار لأقطن فيه بسعرٍ زهيد، لكِن حتى هذا المكان لم يسترني من برد الشتاء أو حر الصيف ولا من الحشرات والزواحف، عدا عن عدم مقدرتي على دفع ايجاره المتأخر، ولأنني أعتمد على مخصصات الشؤون الاجتماعية الذي أتقاضاه مرة كل أربعة شهور، أضطر لشراء بعض احتياجات أطفالي بهذا المبلغ، لأنّه لا ذنب لهم سوى أنهم فقراء ومحرومين من حنان الأب ودفء البيت".
على الجهة الأخرى، كان رائد الذي يؤجر شقتين من عمارته التي يقطنها، هو وأولاده في شقة والأخرى يؤجرها لكي يجد دخلاً يساعده على العيش في ظل غلاء الأسعار والأوضاع السيئة، فقال: "أنا أقوم بتأجير المنزل منذ نحو 15 عاماً، وبتجربتي فإنّ الكثير من المستأجرين لا يدفعون قيمة الايجار الشهري، وبعضهم يطلب التأجيل لحوالي ثلاثة شهور أو لحين دفع مخصصات التنمية الاجتماعية، حتى يصل بي الحال لطردهم من المنزل، فأنا أيضاً أريد أنّ أعيش وأعيل أسرتي".
كذلك "محمد السقا"، وهو صاحب عمارة سكنية، أوضح:"أنشأت هذه العمارة لتكون مشروع استثماري فقط، فقمت ببناء هذا المبني بغرض تأجيره والاستفادة منه، وحين أقوم بتأجير الشقق بدون تقاضي قيمة الايجار، فلن أستطيع الإيفاء بالتزاماتي، وبالتالي فإن إغلاق الشقة أفضل من تأجيرها بدون مقابل، ومن لا يستطيع دفع ايجار المنزل فلماذا يُقدم على الزوج؟!".
"أبو تيسير" وهو صاحب عمارة سكنية شمال قطاع غزّة، فقد بيّن هو أيضاً الأوضاع تزداد تردياً يوماً بعد الآخر، حيث إنّه يؤجر شققاً للمواطنين منذ سبعة سنوات، لكِن هذه الفترة هي الأسوأ، مُضيفاً: "كان الله بعون الناس، فقلة العمل وغلاء المعيشة ألقى بظروف نفسية سيئة على الناس، وأنا أراعي ظروفهم لكني أيضاً لا استطيع مراعاة ظروفهم بشكل دائم".
وتبقى معاناة المستأجرين مستمرة وآخذة بالازدياد في ظل شبه حياة مفروضة عليهم بغزّة، وبرغم المدن السكنية التي تُبنى هنا وهناك إلا أنّه لا يتم توزيعها بشكلٍ عادل لمستحقيها بحسب آراء الكثيرين ممن عبروا عن سخطهم في هذا التقرير من عملية التوزيع.