المتشائل تلك الكلمة دخلت قاموسنا العربي ووجدت طريقاً لتوصيف حالتنا النفسيِّة في هذا الوطن وما حلَّ به من مآسي ونكبات بعد هزيمة العام1967.
المتشائل هي رواية ساخرة كتبها إميل حبيبي؛ الأديب الفلسطيني عام 1974، وتدور أحداث الرواية حول سعيد أبي النحس المتشائل، وهو فلسطيني من الأراضي المحتلة عام 1948، في فترة الحكم العسكري الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على المواطنين الفلسطينيين.
وأوجد حبيبي كلمة جديدة، من خلال نحت كلمتَي تفاؤل وتشاؤم، ليصوّر حالة عرب الأراضي المحتلة عام 1948 وهي "التشاؤل"، التي تحمل معنيَي التفاؤل والتشاؤم مندمجَين. ويطرح حبيبي -باختصار- جدلية الأنا والآخر، ضمن الأنا الفلسطينية والآخر الإسرائيلي المحتلّ، إذ يبدو أن "المتشائل" تشكِّل روايةً لحال البشر عند تقاطع طرق، وكلُّ اتجاه يؤدي إلى الشكِّ في الغد.
لم يكن حبيبي يعلم أن روايته ستأخذ طريقها إلى الأدب العالمي ويتم ترجمتها إلى 13 لغة، وتحظى بجوائز منحته مكانة متقدمة في عالم الرواية والأدب العالمي.
ما يهمني هنا هو تلك الكلمة "المتشائل"، التي تحولت من اسم رواية إلى حكاية وطن ونفسية شعب.
جدلية النكبة والتشريد..
في المرحلة التي سبقت وقوع النكبة عام 1948، كان الفلسطينيون متفائلين بأن عرب الجوار ستهب جيوشهم لنجدتهم والدفاع عنهم، وكسر شوكة اليهود المستوطنين، الذين أخذوا بمهاجمة القرى والمدن الفلسطينية، إلا أن حالة التفاؤل تلك سرعان ما تحولت إلى حالة من الإحباط والشعور بالهزيمة والانكسار، إذ انتهت المواجهة بحالة من الصدمة والذهول أصابت الفلسطينيين مع تهجير مئات الآلاف منهم إلى دول الجوار كلاجئين أو نازحين في المخيمات التي أقيمت لهم بمناطق داخل الضفة الغربية وقطاع غزة.
جدلية الهزيمة والانتصار..
في السنوات التي أعقبت نكبة العام 1948 ونكسة 1967، كان ميلاد الجيل الذي ولد وترعرع في المخيمات، والذي انتشى ثورية ووطنية مع خطابات الرئيس عبد الناصر، وتهديداته النارية لإسرائيل بالويل والثبور، وتبشيره لنا بنصر مؤزر قريب.. كان هذا الجيل من أبناء المخيمات قد غدا شاباً يافعاً، حيث تفتحت عيناه على حالة البؤس والشقاء، إلا أنه كان يعيش حالة من الحيوية والتفاؤل، والشوق الكبير إلى اليوم الذي تبدأ فيه معركة التحرير والعودة.
ومع التهديدات التي كان يعلو صوتها والموجّهة لإسرائيل من دول الجوار، وخاصة مصر عبد الناصر، كان منسوب الوطنية والحماس بين هؤلاء الشباب من جيل النكبة يتعالى، مصطحباً بأجواء التفاؤل بأن معركة الخلاص والتمكين وعودة اللاجئين قد اقترب موعدها.
كان المحفِّز لكلِّ هذه الحالات من التفاؤل هو أن العرب هم من سيخوض المعركة بعددهم وعتادهم، وهم مقارنة بإسرائيل بمثابة الدولة العظمى في المنطقة.
ومع تزايد قرع طبول الحرب وحناجر التهديد، كانت حالة التفاؤل ترتفع أكثر فأكثر.
وفجأة؛ وقعت الواقعة، وكانت الهزيمة التي حطَّمت كلَّ حُلم جميل عشناه، وتهاوت الآمال بالنصر والعودة، وتلبستنا كشعب حالة التشاؤم ونفسيِّة الهزيمة من جديد.
هنا؛ وبعد هذه الهزيمة أو النكسة المروعة، نحت إميل حبيبتي المصطلح الذي عبر عن واقع حياتنا النفسي، حيث لم يعد "التفاؤل" واقعاً مصاحباً لنا، كما أن "التشاؤم" مع تنامي ظاهرة الصحوة الإسلامية كلمة تناسب من التزموا النهج الإسلامي ولا من ركبوا صهوة جواد الثورة، وعقدوا العزم على مواجهة إسرائيل، واستعادة حقهم السليب في فلسطين.
ومع ذلك، فإن ما سبق من خيبات أمل وتراجع الحالة العربية في دعمها للفلسطينيين، ودخولنا على خط الصراع الفكري بين ما هو إسلامي وعلماني وطني جعل مشهد الفلسطيني ينحو إلى ما أسماه حبيبي بـ"التشاؤل"، فلا تفاؤل مطلق ولا تشاؤم مطلق، ونحن بين الحالتين تتحرك نفسياتنا عاثرة بين الاحتلال ورؤيتنا للوطن.
جدلية المقاومة والانقسام...
مع تداعي حالة السنين التي تكاثرت فيها المواجهات مع العدو حيناً، وفيما بيننا حيناً أخر، التصقت دلالات هذه الكلمة "التشاؤل" بالحالة الفلسطينية أكثر، وأصبحت حالة مرضية تتطلب علاجاً فشلنا في توفيره، للخروج مما نحن فيه من العجز والاكتئاب، ووضعية من يمشي مُكبّاً على وجهه، متعثراً في كلِّ وجهة وقرار!!
اليوم، المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية يمنحنا بعض التفاؤل مع هذه العمليات البطولية الفردية، والتي تُعيد فينا الأمل وتجديد الحلم الفلسطيني، ولكن في الوقت نفسه فإن حالة الانقسام والتشظي وغياب فرص المصالحة الحقيقية تردنا إلى وضعية التشاؤم.. ومع تشرذم الحالة السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وافتقار "الكل الفلسطيني" للرأي السديد والحكم الرشيد، تتحرك رؤيتنا الوطنية داخل فضاءات من تشاؤم العقل وشيء من تفاؤل الإرادة، وإن كان السياق الوطني برمته يعيش حالة من التيه، وتغلب عليها أجواء "التشاؤل" وفقدان البوصلة.
إن أبجديات الوعي السياسي تشي إلى أن سيف الحقيقة أقرب لوضعية التشاؤل، وأن ضرباته لا تبدو قاتلة، فلن تحسم معركة المواجهة مع الاحتلال أو تحرر الوطنَ بهذا الحال.
وفي قراءة سريعة لحركة التاريخ، علينا أن نفهم أن عربته لا تأخذنا في رحلة للسياحة الفكرية فقط، إذ إنَّ صفحاته تكتنز بالدروس والعبر، التي يتوجب علينا تدبرها والإخذ بها، لرسم ملامح التحديات وصناعة مستقبلٍ شعبنا وقضيتنا الوطنية.
باختصار.. خلال السبعة عقود الماضية، ومع ماتناولناه من جدليات، كان "التشاؤل" للأسف في المشهد الفلسطيني -وما يزال- هو المرآة العاكسة لواقع الحال.