لا يختلف معظم المحللين السياسيين على أن المجتمع الإسرائيلي يتجه نحو اليمين، وأصبح واضحاً أن اليمين هو الخيار المفضّل للناخب الإسرائيلي، والانتخابات الأخيرة وما سبقتها كانت دليلاً بارزاً على هذا التوجه، بالإضافة طبعاً إلى كل دراسات الرأي العام والاستطلاعات التي أجريت في إسرائيل في السنوات الأخيرة. ولكنْ هناك فرق بين «اليسار» الصهيوني، ووسط اليمين، وبين اليمين المتطرف الذي يقوده «الليكود» وتيار الصهيونية - الدينية - المسيحانية. وهو الذي فاز فعلياً بالانتخابات الأخيرة. ونتيجة الانتخابات كان يمكن أن تكون مختلفة بعض الشيء بالنظر لأن مجمل الأصوات التي حصل عليها هذا الائتلاف اليميني المتطرف بوجود الأحزاب الدينية الأصولية، وبوجود حزب «البيت اليهودي» برئاسة أيليت شاكيد الذي لم يحصل على نسبة الحسم ولم يحصل على أي مقعد، هي 2361654 صوتاً من أصل 4764618 مجموع الأصوات الصحيحة. هذا يعني أن ائتلاف بنيامين نتنياهو لم يحصل على 50% من الأصوات، وكانت هناك إمكانية لهزيمته.
ربما يعتقد الكثيرون أن السجالات والاتهامات المتبادلة داخل المعسكر النقيض لمعسكر نتنياهو ليست في محلها، ولكن الحقيقة المرّة وراء فوز نتنياهو وائتلافه الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، مع وصول بن غفير للكنيست مع ثمانية مستوطنين آخرين، تستدعي دراسة ما حصل وتقييمه بصورة موضوعية. وفي الواقع هناك بعض الأمور التي يمكن الإشارة إليها كخلل في أداء المعسكر المقابل للائتلاف الذي سيحكم إسرائيل، والتي وردت في تحليلات الساسة والخبراء. ومنها على سبيل المثال، أن نتنياهو عمل كل ما في وسعه لكي يفوز معسكره، ولم يركّز فقط على «الليكود» أو مجرد الكتلة الأكبر، بينما لم يفعل الرئيس المنافس يائير لابيد نفس الشيء، وركّز على نفسه وحزبه في منافسة «الليكود». كما أن معسكر نتنياهو كان متّحداً حول قيادته، بينما في معسكر لابيد كان هناك من ينافسون على رئاسة الحكومة كبيني غانتس مثلاً.
وفي ظل التنافس الشديد على تجاوز نسبة الحسم، كان يمكن لائتلافات بين القوائم المعارضة لنتنياهو أن تحقق مكاسب إضافية، فمثلاً لو اتحد حزب «العمل» مع حركة «ميرتس» لحصلا على ثلاثة مقاعد إضافية وربما أكثر. ولكن رئيسة «العمل» ميراف ميخائيلي رفضت فكرة الوحدة. والأسوأ هو ما حصل لدى القوائم العربية، حيث أدى عدم التوحّد بين قائمتَي «الجبهة» و»الحركة العربية للتغيير» مع «التجمّع الوطني الديمقراطي» إلى فشل «التجمّع» في تجاوز نسبة الحسم، وبالتالي خسارة بضعة مقاعد إضافية قد تكون ثلاثة أو ما يقارب. والأدهى هو غياب الاتفاق بين هذه القوائم على فائض الأصوات كذلك.
ومن كان يقول، إن الصوت الفلسطيني حاسم في الانتخابات صدق؛ لأن الخلل لدى الفلسطينيين في إسرائيل - سواء بالامتناع عن التصويت بكثافة أو عدم الوحدة وسوء الأداء - أدى إلى خسارة كبيرة كان يمكن تفاديها، وإغلاق الطريق أمام عودة نتنياهو إلى الأبد. وللأسف على الجميع الآن التعامل مع النتيجة الكارثية لهذه الانتخابات، التي أدت إلى فوز المجرمين والمتطرفين الذين يحملون شعارات معادية تماماً للفلسطينيين، سواء داخل إسرائيل أو في المناطق المحتلة، والذين يريدون تغيير هوية وطابع دولة الاحتلال باتجاه أكثر عنصرية وتطرف، وأبعد عن الليبرالية و»الديمقراطية» على الطريقة الإسرائيلية المعتادة.
بالنسبة لنا يمثل صعود «الصهيونية الدينية» و»قوة يهودية» إلى سدّة الحكم بداية مرحلة جديدة من المواجهة بين الاحتلال والشعب الفلسطيني. وليس هذا لأن الحكومة المغادرة كانت أفضل بكثير على الأقل في سياستها الاحتلالية، بل لأن التوجهات العامة لأطراف اليمين المتطرف الحاكم لا تبقي مجالاً إلا لانتظار سياسة أكثر دموية وعنصرية وتطرفاً لم تشهد البلاد مثيلاً له. ولنأخذ مثلاً القضايا التي يفاوض قادة «الصهيونية الدينية» و»قوة يهودية» عليها في إطار السعي لتشكيل الحكومة. وزارة الدفاع لضمان إطلاق يد الجيش في القتل، وسياسة أكثر سهولة مع الاستيطان سواء في تشجيع عمليات البناء والمشاريع، أو في التضييق على الفلسطينيين وترحيلهم من مناطق (ج)، وشرعنة البؤر الاستيطانية، وتسوية الأراضي في الضفة بما يتيح تسجيلها لصالح المستوطنين. ووزارة الأمن الداخلي لمحاربة التجمعات الفلسطينية في الداخل، وتوسيع نطاق الاعتداءات على المسجد الأقصى من اقتحامات مكثفة وحتى إقامة صلوات فيه. ووزارة المواصلات لتنفيذ مشاريع بنى تحتية في الضفة. ووزارة الإسكان والبناء لضمان تنفيذ مشاريع توسيع المستوطنات وإقامة مستوطنات جديدة. بالإضافة إلى وزارة الداخلية للحصول على تمويل للمجالس المحلية. كما يفاوض كل من إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش على ضم المناطق الفلسطينية، وتحويل الصلاحية من جيش الاحتلال إلى الوزارات الحكومية الأخرى.
إذاً نحن أمام تحوّل في السياسة الإسرائيلية، بصرف النظر عن نجاح بن غفير وسموتريتش في الحصول على كل ما يرغبان فيه لتشكيل الحكومة، ولم يعد بالإمكان إبقاء الأمور على الساحة الفلسطينية كما هي اليوم، والاستمرار في ندب حظنا والشكوى والمناشدات، بل نحن بحاجة لدراسة عميقة لما حصل ويحصل، والعمل على مواجهة أسوأ الاحتمالات بطريقة مختلفة تماماً عن الأداء القيادي الراهن، بدءاً بمسألة الوحدة الوطنية، وتفعيل أشكال المقاومة الشعبية المختلفة، والقيام بحملات سياسية ودبلوماسية منهجية ومتواصلة، بما في ذلك اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة والرأي العام العالمي، خاصة في الدول الغربية. وكل شيء يبدأ بقدرتنا على تشكيل قيادة موحدة.. فهل نحن مستعدون لذلك؟
هارتس : لماذا قدم السيسي موعد الانتخابات الرئاسية؟
01 أكتوبر 2023