حتى داخل فتح وداخل الحلقة الضيقة الملازمة له، لم يكن ياسر عرفات قائد فرقة كشافة يسير الجميع على ايقاعه، بل كان "قائد قادة" يتفقون معه ويختلفون، ولم يكن ذلك ليتم فقط في غرف مغلقة، بل كان يتخذ شكلا علنيا ويصل الى وسائل الاعلام.
واذا ما راجعنا مواقف القادة التاريخيين زملاء التأسيس واقطاب المسيرة منذ بدايتها وعبر كل فصولها، فلابد من التوقف وباعجاب عند اختلاف أبو اياد شبه الدائم مع عرفات، وانتقادات المثقف الكبير خالد الحسن أبو السعيد للعديد من مواقف أبو عمار وقراراته الداخلية والسياسية، وكذلك الامر مواقف وتصريحات القدومي الذي كان الأكثر رسمية من التاريخيين جميعا، حيث كان امين سر اللجنة المركزية لفتح ورئيس الدائرة السياسية أي وزير الخارجية في المنظمة، وحتى اذا ما نظرنا الى مواقف الأعضاء الفتحاويين من الصف الثاني والثالث، وحتى صفوف ومستويات القاعدة، فنجد ان الاختلاف مع عرفات مورس على نطاق واسع سواء زمن الثورة والمنفى او زمن التسوية والسلطة.
وما كان في فتح التي هي عضلة القلب بالنسبة لزعامته كان ما هو اكثر عمقا وحدة منه داخل منظمة التحرير، وخصوصا على مستوى المؤسسات الرئيسية، فلم يكن المجلس الوطني مجرد تجمع يصفق ويهتف حتى لو كانت غالبيته العظمى من فتح، وللدلالة على هذه الحقيقة اسوق مثلا.. حين رغب ياسر عرفات بأن ينتخب رئيسا لمنظمة التحرير من المجلس الوطني مباشرة وليس من اللجنة التنفيذية، وكان القرار بذلك يحتاج الى ثلثي الأصوات، لم يتمكن من الحصول على ما رغب واراد، وظل الوضع على حاله ولم تتغير فقرة الميثاق التي تقول " تنتخب اللجنة التنفيذية رئيسا لها من بين أعضائها"، وعندما لا يتمكن عرفات من اجتياز حاجز الثلثين في مجلس تسيطر عليه حركته، فهذا يعني ان الاطار الأعلى والأوسع كان يعتمده رئيسا ولكن دون التفريط بالضوابط الدستورية التي تحدد كيفية انتخاب رئيس المنظمة.
لم يبق احد من رجالات القيادة التاريخية لم يختلف مع عرفات، سواء داخل الاطار او خارجه، وحين يكون الامر كذلك على مستوى المركز فبكل تأكيد ترى امتداداته على كل مستويات الصفوف التي شكلت بديموقراطيتها وشجاعتها في الاتفاق والاختلاف اهم ظواهر حركة فتح في عهدها الذهبي، حيث كان عرفات يصفها براعية الوحدة الوطنية وصانعة ديموقراطية البنادق.
كيف كان عرفات يتعامل مع الاختلاف؟؟
هنا يكمن بيت القصيد فقد كان لدينا حزمة قواعد وتقاليد تحكم العلاقات الداخلية وحدودها وأسقفها، كانت تحدد الى أي مدى يكون الاختلاف مشروعا ومسموحا به.
القاعدة الأولى... تحتم الا يصل السجال حال الاختلاف الى الجنوح نحو التخوين والقاء الاتهامات التي تمس بوطنية المختلف معه وتاريخه الكفاحي ومكانته على القمة.
القاعدة الثانية... ان لا يستقوي احد مهما كان مستوى وضعه القيادي حال اختلافه مع الرئيس الذي هو القائد العام بأي نظام عربي او اجنبي ، كان مسموحا للمختلفين اجتهاديا ان يروجوا لمواقفهم داخل الإطارات الفتحاوية وجمهورها العريض، والى حد ما داخل تشكيلات منظمة التحرير الحليفة، ولقد اثبتت هذه القاعدة جدواها وصحتها حين وقع الانشقاق الكبير بعد الخروج من بيروت، كانت النتيجة ان بقيت الغالبية العظمى في الجسم الأساسي وهم جميعا ممن لا صلة لهم بالنظم واجنداتها الخاصة، اما الذين وضعوا انفسهم في خدمة النظم فقد ذابوا وتبخروا الى الحد الذي لم يعد لهم وجود.
القاعدة الثالثة... وهذه تنطبق على الوضع الذي نشأ بعد العودة الى الوطن، والاندماج في تجربة أوسلو وما نجم عنها، كان مسموحا للفتحاويين وللفصائل تأييدها او معارضتها، حين دخل الى الحياة السياسية والنظام السياسي امر جديد ومختلف. منه برلمان منتخب وحكومة كانت تنبثق عادة عن البرلمان من حيث الثقة والشرعية، وهنا اتسعت مجالات الاختلاف الذي لم يفقد مشروعيته ما دام يمارس داخل الإطارات القديمة والجديدة أي المنظمة والسلطة، لم تكن فتح كلها تؤدي معزوفة واحدة في كل الخيارات والقرارات وحتى حين كان المجلس التشريعي فتحاويا خالصا، كان عرفات يبذل جهدا كبيرا لتأمين اجتياز حاجز الثقة ولم يحدث ولو لمرة واحدة ان تجاوزت الثقة اكثر من 55%.
كان عرفات يتعامل مع المختلفين معه ضمن ذات القواعد التي يلتزمون هم بها الا انه كان يوظف الاختلاف لدعم قيادته الشاملة للحركة والسلطة والمنظمة والثورة، كان يتباهى به كمظهر ديموقراطي اذ كثيرا ما كان يقول " انا لا اقود قطيعا من الأغنام" كان يغضب من الشطط والاستفزاز والمغالاة الا انه كان يسيطر على غضبه ويلوذ دائما بطريقته المفضلة الاستيعاب والاحتواء والتي كانت تنجح على الدوام.